محمد شريف حواص
محرر في CNBC عربية

لن يحتاج كل من يتابع الأحداث التي تعيشها فرنسا اليوم وسبق له مشاهدة الفيلم الفرنسي "أثينا"، إلى وقت طويل قبل ملاحظة الشبه الكبير حد التطابق بين الأحداث التي تعيشها باريس وعدد من المدن الفرنسية حالياً من احتجاجات وأعمال تخريب وبين السيناريو والمشاهد التي عرضها الفيلم الذي أطلقته منصة نتفليكس الأميركية السنة الماضية!

الفيلم الذي لاقى نجاحاً كبيراً وحصد عدداً من الجوائز يكاد يكون تصويراً لواقع فرنسا في هذه الأيام:

الحدث الرئيسي ذاته، الأماكن نفسها، وتطور الأحداث متطابق إلى حد الدهشة

يبدأ الفيلم  بمشهد لمؤتمر صحفي أمام مركز أمن إثر مقتل صبي من أصول جزائرية يدعى "إيدير" على يد ضباط مجهولين، ولكن سرعان ما تتحول القاعة إلى ساحة عراك بين أبناء "أثينا" وهي الضاحية الفرنسية التي يقطن فيها الصبي وبين رجال الأمن، وخلال المعركة ينجح المحتجون بقيادة الأخ الأصغر للصبي القتيل في الاستيلاء على سيارة الشرطة وجانب من أسلحتهم لينطلقوا في تخريب مركز الأمن وحرقه وتخريب كل ما يعترضهم.

الفيلم أراد الانطلاق من عملية القتل ثم ما تلاها من "انتفاضة" عفوية للإشارة إلى حالة الرفض العارمة لسياسة تهميش النظام لسكان الضواحي الذين طالموا رفعوا شعارات تطالب بالمساوات وتنتقد العنصرية ضد سكان ضواحي باريس والذي يمثل الجانب الأكبر منهم المهاجرين من الأفارقة عموماً والمغاربة خصوصاً، وهي دول كانت في غالبها مستعمرات فرنسية سابقة.

-فرنسا بين إيدير ونائل-

ويمضي الفيلم لنشاهد سيناريو سابق لما تشهده عاصمة النور هذه الأيام، احتجاجات واسعة طالت العاصمة الفرنسية وبعض أبرز الضواحي احتجاجاً على مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية "نائل مرزوق" والذي أطلق أحد رجال الأمن النار عليه بعد عدم امتثاله لأوامره بالتوقف، وما زاد الطين بلة انتشار فيديو على صفحات منصات التواصل الاجتماعي كشف الواقعة بتفاصيلها.

الغريب في كل ذلك هو الدور الذي يلعبه كل طرف في هذه التراجيديا، بحيث يبدو وكأن الواقع يعيد تمثيل مشاهد الفيلم، ففي الدراما كما الواقع، تنطلق أحداث الشغب بعد بدء الاحتجاجات من أمام منزل المتوفي بمجرد انتهاء المؤتمر الصحفي لوزارة الداخلية.

ليس هذا فقط، فخلال مسار الفيلم، نشاهد الأخ الأصغر لـ "إيدير" والذي تحول بفعل الغضب لشاب يقود حشداً من الثائرين يقول بإن الشرطة قتلت أخاه لمجرد معرفتهم بأنه من أصول مهاجرة مؤكداً أنه كان يمكن للشرطة عدم قتله والاكتفاء بأخذه للسجن، هو التصريح نفسه ويكاد يكون بحذافيره الذي أدلت به "مونيا" والدة الشاب نائل والتي ظهرت باكيةً على شاشة القناة الفرنسية الخامسة في تصريح مس الكثيرين و جلب لها ولعائلتها تضامناً من شرائح مختلفة من المجتمع الفرنسي.

-عنف اليوم إحباطات الماضي-

ويمضي الواقع في تجسيد أحداث الفيلم، فنتابع تأثير هذه الحادثة في الكثير من المهاجرين والحقوقيين في مدن فرنسية مختلفة خرجوا رافضين سلوك الشرطة الفرنسية.

وسرعان ما توسع هذا الرفض الذي يحمل إحباطا مزمناً من تهميش سكان الضواحي، ليتحول الى أعمال تخريب واسعة من حرق ونهب لمحلات تجارية ووسائل النقل ومؤسسات عامة وخاصة دون استطاعة السلطات الأمنية ضبط الشارع فتتخذ قراراً بتطبيق حظر للتجول ونشر أعداد كبيرة من رجال الأمن في مناطق الاحتجاجات.

وتماماً كما يعود محللو أحداث الواقع الى أحداث مشابهة شهدتها فرنسا في العام 2005، فإن الحبكة الدرامية للفيلم تعود بالمتفرج إلى عام 1830 وهو تاريخ احتلال القوات الفرنسية للجزائر ما يوحي بأن أحداث الحاضر هي انعكاس لإحباطات الماضي وهي وجهة النظر نفسها التي يتبناها المهاجرون عبر نداءاتهم وشعاراتهم والتي تظهر بقوة في منصات التواصل الاجتماعي. 

يقال إن الفن مرآة الواقع، وهذا بالتأكيد ما رأيناه في فيلم "أثينا" الذي نجح في رصد مشاعر المهمشين وجسد ردة فعلهم على حادثة معينة قبل أشهر من وقوعها، التقط الفيلم حالة النار تحت الرماد التي تستعر لسنوات طويلة وتحضن الغضب الهائل الذي يعيشه المهاجرون من أطياف مختلفة رفضاً لتعامل الحكومات الفرنسية المتعاقبة معهم، إذ يعتبر هؤلاء أنهم محرومون من أدنى حقوقهم المدنية بحيث يتم تهميشهم وتفقيرهم ومعاملتهم على أساس عنصري فيجدون أنفسهم محاصرين ولا رد لهم سوى بالمقاومة العنيفة.

في الجزء الأخير من فيلم "أثينا" تعرض نشرة الأخبار تقريراً عن تأليف الحكومة لخلية أزمة في محاولة لإيجاد حل لتهدئة الأمور، وهو ما قام به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالفعل بعد إلغاءه حضوره للقمة الأوروبية في بروكسل.

فيلم "أثينا" ليس الأول ولن يكون الأخير في حلقة مستمرة لأفلام تطالعنا كل عدة سنوات وتنجح في رصد بل والتنبؤ بأحداث قبل وقوعها، فما يحدث اليوم يعود بذاكرتنا على سبيل المثال ولا الحصر لأحداث الـ11 من أيلول سبتمبر وبالتحديد لفيلم.

-The long kiss goodnight-

والذي تنبأ بتفجير مركز التجارة العالمي قبل 5 سنوات من وقوعه.

فلماذا تنجح الدراما في قراءة الواقع أكثر من من هم في سدة المسؤولية؟ ولماذا يتعامى أصحاب السلطة والحكم عن رؤية الحقائق؟ فيتهاونون في تلافي انفجار الأزمات قبل وقوعها ويواصلون التسويف وتأجيل إيجاد الحلول العادلة لملفات مزمنة كان يمكن حلها ببعض الحكمة وبعض المواجهة بدل التباكي بعد وقوع ما لا يحمد عقباه.