بقلم فارس البرغوثي
منتج - منصات رقمية في CNBC عربية
في كل عام، يلتحق 235 مليون طالب حول العالم بالتعليم العالي أو التعليم الجامعي، يتخرج منهم عدد لا بأس به من الطلاب العاديين والذين يبحثون عن أي وظيفة من الممكن أن تنتشلهم قبل الوقوع في مستنقع البطالة، ومنهم المميزون والذين تطلبهم شركات معروفة للعمل، ولكن بمجرد استلامهم لمهام عملهم وزوال الانبهار بفكرة العمل فور التخرج في مكان قوي ذو سمعة طيبة في الأوساط المهنية، يكتشفون أنهم دخلوا بأنفسهم إلى أحضان "الثقب الأسود".
شركات الثقب الأسود
في عام 1916، جاء ذكر الثقوب السوداء لأول مرة من قبل العالم العبقري ألبرت آينشتاين في النظرية النسبية العامة، ومنذ ذلك الحين فكل ما نعرفه هو أنها أماكن في الفضاء ذات جاذبية عالية جداً لدرجة أنها تسحب أسرع شيء يوجد في هذا الكون، الضوء، ولا أحد يعلم بالضبط ما يحدث بالداخل.
ولكن مهلاً! نحن لسنا هنا لنتكلم عن الثقوب السوداء والبيضاء والثقوب الدودية، نحن هنا لنعرف لماذا أطلقنا مصطلح الثقب الأسود على هذه الشركات.
ببساطة لأنها تقوم على سحب كل شيء من الموظف لديها، وتعرضه في الداخل لضغط شديد كفيل صحته النفسية والجسدية، لتعطيه المال فقط.
الأمراض النفسية المرتبطة بضغط العمل
في دراسة نشرت في دورية The Lancet Psychiatry عام 2018، فحص الباحثون بيانات استبيان شمل أكثر من 6800 موظف في المملكة المتحدة يبلغون من العمر 45 عاماً ولم يتم تشخيص إصابتهم بالاكتئاب أو القلق أو غيره من الأمراض النفسية الشائعةقط، وخلصوا إلى أن حوالي ثلثهم ليس لديهم أي تحكم في الأعمال التي يقومون بها، وأن أكثر من ربعهم وصفوا وظائفهم بأنها "صعبة للغاية ومجهدة".
وأفادت أيضاً أنه وبحلول سن الـ 50، كان الموظفون الذين قالوا إنهم تعرضوا لمستويات عالية من الضغط الوظيفي قبل ذلك بـ 5سنوات أكثر عرضة بنحو ضعفين لأن يتم تشخصيهم باضطرابات نفسية من الأشخاص الذين يعملون في وظائف لا تتطلب جهداً كبيراً أو ضغطاً نفسياً.
وخلصت الدراسة أخيراً إلى أن العاملين في الوظائف الصعبة والمرهقة أكثر عرضة بنسبة 70% للإصابة بمرض نفسي بحلول سن الـ 50، كما أن الأشخاص الذين قالوا إنه ليس بمقدورهم التحكم في تفاصيل العمل الذي يقومون به كانوا أكثر عرضة بنسبة 89% لأن يتم تشخيصهم باضطرابات نفسية.
وهنا نأتي إلى موضوع محوري، وهو المشاكل النفسية المرتبطة بضغط العمل والوظائف المرهقة جسدياً وعقلياً، مثل الاحتراق الوظيفي، المصطلح الذي ظهر إلى الساحة في الآونة الأخيرة وتصدر عناوين المقالات والدراسات والبرامج وحتى البودكاست.
بحسب Harvard Business Review، فإن الاحتراق الوظيفي هي حالة تصيب الموظف تؤدي به إلى فقدان الرغبة بالعمل، وتترافق مع ضعف الإنتاجية والإرهاق الجسدي العقلي.
ويتم ربط الاحتراق الوظيفي بعدة أسباب، منها ضغط العمل، قلة الصلاحيات، نقص التحفيز، وضعف الحياة الاجتماعية داخل المؤسسة، وهي عوامل نجدها جميعها في "شركات الثقب الأسود".
ما سبب بقاء الموظف
بعد الحديث عن المشاكل النفسية والصحية التي تلم بالموظف جراء ضغط العمل والبيئة السامة في "شركات الثقب الأسود" يتبادر إلى أذهاننا سؤال مهم.. ما الذي يجعله يبقى؟
في الحقيقة بقاء الموظف في هذه الشركات مرهون بعدة عوامل، من الممكن أن يكون ارتباط اسم الموظف بهذه الشركة في الأوساط التي حوله يجعل من الصعب الانتقال إلى شركة أصغر أو ذات سمعة أقل من الشركة التي يتواجد فيها حالياً، إذ أن هذه الشركات، شئنا أم أبينا، تعطي العاملين فيها مرتبة اجتماعيةً مرموقة بين الناس، وتزوده بشبكة علاقات تعينه في الكثير من نواحي الحياة، بالطبع مع العديد من الامتيازات مثل الرواتب المغرية والتأمينات الاجتماعية والصحية وحتى تذاكر سفر وحوافز مالية.
وهنا يبقى السؤال، هل تفضل وظيفة براتب متوسط تعمل فيها لـ 8 ساعات في بيئة ذات مستوى منافسة منخفض وتحكم أكبر في قرارات عملك؟ أم تفضل وظيفة براتب مرتفع في وظيفة تعمل فيها على مدار الساعة طول الأسبوع وسط منافسة شرسة لا تعرف الرحمة ومدير يملي عليك الأوامر طوال الوقت؟