أجرت بعثة صندوق النقد الدولي خلال شهر مايو/ آيار الجاري،  مشاورات المادة الرابعة للعام 2024 مع مسؤولي السلطات الليبية، وأصدرت بياناً الاثنين 13 مايو، بشأن توقعاتها وتوصياتها للاقتصاد الليبي.. ما الذي جاء فيه؟

تتوقع البعثة أن يواصل الاقتصاد الليبي تحقيق معدلات نمو قوية خلال العام الجاري وإن كانت أقل مقارنة بما كانت عليه في عام 2023، وقالت إنه من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بما يقرب من 8% في عام 2024 ويستمر في التوسع بمعدلات أقل في السنوات الخارجية.

تتفق هذه التوقعات إلى حد ما مع توقعات الصندوق لنمو الاقتصاد الليبي في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي أبريل/ نيسان 2024، عند 7.8% خلال العام الجاري، مقابل 10.2% في 2023، ليصبح في صدارة الاقتصادات الأعلى نمواً في منطقة الشرق الأوسط خلال 2024، وفق تقديرات الصندوق.

وبحسب تقرير أبريل، يتوقع الصندوق أن ينخفض معدل نمو الاقتصاد الليبي قليلاَ في عام 2025 إلى 6.9%، ثم يتراجع بشكل كبير إلى 2.3% في عام 2026.

لكن أرقام وتوقعات صندوق النقد الدولي لا تعكس صورة تاريخية مثالية لوضع الاقتصاد الليبي خلال السنوات الماضية، فالبلاد الواقعة في شمال أفريقيا تقع فريسة لحالات من عدم الاستقرار السياسي بين الحين والآخر، وهو ما يظهر حالات الانكماش التي وقع فيها الاقتصاد عدداً من السنوات في العقد الأخير وكان آخرها في عام 2022 عندما تراجع بنسبة 8.3%.


اقرأ أيضاً: صندوق النقد الدولي يتوقع نمو اقتصاد ليبيا بنحو 8% في 2024


كما أن اقتصاد ليبيا، الدولة العضو في منظمة أوبك للدول المصدرة للبترول، يعتمد بشكل كبير على إنتاج النفط والغاز، وهو ما قد يعرضه للمخاطر عند انخفاض أسعار هذه الأنواع من المنتجات، أو عند خفض أو توقف الإنتاج في حالات عدم الاستقرار السياسي والأمني.

مثلت الإيرادات النفطية نحو 96.7% من إجمالي إيرادات الميزانية العامة لليبيا في عام 2023، بقيمة 121.7 مليار دينار ليبي، رغم تراجعها من نحو 130.5 مليار دينار في عام 2022، بحسب بيانات مصرف ليبيا المركزي.

النفط ينقذ الاقتصاد في 2023

قالت بعثة الصندوق في بيان الاثنين، إن بعض الصدمات ضربت ليبيا خلال الفترة الأخيرة لكن تأثيرها على نمو الاقتصاد كان ضعيفاً، بفضل اعتماد الناتج المحلي الإجمالي بشكل أساسي على صادرات الطاقة.

وأضافت أن من بين هذه الصدمات التي لم يكون لها سوى تأثير ضئيل على النمو الاقتصادي في ليبيا: العاصفة الاستوائية دانيال التي ضربت شرق ليبيا في سبتمبر/ أيلول 2023، مما أدى إلى فيضانات مدمرة وأضرار كارثية وخسائر فادحة في الأرواح، بالإضافة إلى تأثير الصراع في غزة وتعطل الشحن في البحر الأحمر. 

وأرجعت نمو الاقتصاد في عام 2023 بنسبة 10%، بحسب التقديرات، لحد كبير إلى انتعاش إنتاج النفد بعد توقفه في عام 2022.

ويتوقع رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، فرحات بن قدارة، أن إنتاج البلاد من النفط سيتجاوز 1.5 مليون برميل يومياً بحلول نهاية 2025 قبل أن يصل إلى مليونين في غضون ثلاث سنوات، بحسب تصريحات له في مارس/ آذار الماضي.

ويبلغ إنتاج ليبيا من النفط حالياً 1.220 مليون برميل يومياً.

وأكد وكيل وزارة الاقتصاد في ليبيا سهيل أبو شيحة، في تصريحات لـ CNBC عربية، منتصف أبريل/ نيسان الماضي، أن حجم الإيرادات النفطية للاقتصاد الليبي في الربع الأول سجل 6 مليارات دولار، وأن فائض الميزانية العامة في ليبيا خلال الربع الأول وصل إلى عشرة مليارات دينار ما يمثل 8.5% من حجم الاقتصاد.

اقرأ أيضاً: كيف يخرج الاقتصاد العراقي من عباءة الاعتماد على النفط؟

كانت بعثة من صندوق النقد، زارت ليبيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أشارت إلى أن هناك حاجة ماسة إلى وضع رؤية اقتصادية وطنية واضحة، وهو ما أكدت عليه البعثة التي زارت البلاد مؤخراً، وقالت إن ديناميكيات إنتاج المواد الهيدروكربونية تهيمن على الآفاق الاقتصادية لليبيا على المدى القصير والمتوسط.

كانت البعثة في نوفمبر قالت إن ليبيا تحتاج على المدى المتوسط، إلى استراتيجية اقتصادية لتنويع أنشطتها بعيداً عن الهيدروكربونات، وتعزيز الجهود لتحقيق نمو أقوى وأكثر شمولاً لجميع الفئات بقيادة القطاع الخاص، وهو ما لم تؤكد عليه بشكل واضح في بيانها الجديد في مايو، مشيرة إلى عدد من الإصلاحات المالية التي ربما ترى أن هناك ضرورة للتركيز عليها كأولوية في الوقت الحالي.

معدل تضخم أقل

يتوقع صندوق النقد، في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، أن يواصل متوسط معدل التضخم السنوي في ليبيا تراجعه خلال عام 2024 ليصل إلى نحو 2.9% مقابل 3.4% في عام 2023، وذلك بعد انخفاضه العام الماضي من 4.5% في 2022.

ويرى الصندوق أن متوسط معدل التضخم سيستقر في عام 2025 عند نفس المستوى المتوقع لهذا العام (2.9%) على أن يتراجع في عام 2026 إلى نحو 2.6%.

وقالت البعثة في بيانها الأخير، إن التضخم ظل منخفضاً على الرغم من انخفاض سعر الصرف الموازي. ومع دعم أسعار معظم السلع والخدمات أو إدارتها، فإن التضخم يميل إلى عدم تتبع تحركات أسعار الصرف، على الرغم من أن الواردات تشكل حوالي نصف سلة الاستهلاك. 

علاوة على ذلك، فإن مؤشر أسعار المستهلكين المعلن عنه له تغطية محدودة للمنتجات والمناطق الجغرافية. وتعمل السلطات بالفعل على توسيع التغطية وتحديث سلة مؤشر أسعار المستهلكين، ومن المتوقع أن يكون المؤشر الجديد متاحاً في عام 2025.

فائض الحساب الجاري

يتوقع صندوق النقد أن يرتفع فائض الحساب الجاري إلى 20.4% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الجاري، بعد تقديرات بتراجعه العام الماضي إلى 15.7% من 28.6% في عام 2022، بحسب تقرير آفاق الاقتصاد العالمي.

وقالت بعثة الصندوق إن انخفاض فائض الحساب الجاري في 2023، بحسب التقديرات، جاء تماشياً مع انخفاض أسعار النفط. وكان الموقف الخارجي لليبيا يتماشى إلى حد كبير مع الأساسيات وأهداف السياسات، وحافظ مصرف ليبيا المركزي على الاحتياطيات عند مستوى مرتفع بشكل مريح.

انتقادات لزيادة الإنفاق الحكومي

سجلت المصروفات من النقد الأجنبي خلال العام الماضي إلى 26.4 مليار دولار وهو مستوى أعلى من الإيرادات النفطية بالعملة الأجنبية والتي وفرت للبلاد نحو 25.4 مليار دولار في نفس العام، وذلك بعد فائض في تلك الإيرادات عن المصروفات في عام 2022 بنحو 6.7 مليار دولار، بحسب بيانات مصرف ليبيا المركزي.

وأبدى محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، في نهاية فبراير/ شباط الماضي، استياءه من زيادة الإنفاق الحكومي الذي وصل خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى 420 مليار دينار. 

ووفق ما أوردته وكالة رويترز وقتها، قال الكبير في خطابات موجهة إلى رئيس حكومة "الوحدة" الوطنية المؤقتة في طرابلس، عبد الحميد الدبيبة، إن "معظمها (المبالغ المنفقة) وُجِّه لنفقات استهلاكية على حساب الإنفاق التنموي بشكل ولّد ضغوطاً على سعر صرف الدينار الليبي".

وذكرت بعثة صندوق النقد، إن السلطات تحاول الحد من استخدام النقد الأجنبي. ففي يناير/ كانون الثاني 2024، واستجابة للضغوط على الاحتياطيات الأجنبية، قام مصرف ليبيا المركزي بتشديد القيود على إصدار خطابات الاعتماد وخفض الحدود المفروضة على مشتريات الأفراد من النقد الأجنبي، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين سعري في السوقين الرسمية والموازية.

اقرأ أيضاً: الأردن.. ما الذي تعكسه أحدث المؤشرات الاقتصادية؟

وأشارت إلى أنه في أوائل عام 2024، تم الإعلان عن ضريبة مؤقتة بنسبة 27% على جميع المشتريات بالعملات الأجنبية، مع تخفيف بعض القيود التي تم فرضها سابقاً. ومن المقرر تطبيق الضريبة حتى نهاية عام 2024، على الرغم من إمكانية تعديل النسبة مبكراً إذا لزم الأمر.

إصلاحات مالية مطلوبة

قالت بعثة صندوق النقد إن التوقعات الأساسية تشير إلى انخفاض أرصدة المالية العامة والخارجية على مدى السنوات المقبلة تماشياً مع الانخفاض المتوقع في أسعار النفط العالمية.

وأضافت أنه من شأن وضع الميزانية المناسبة - استناداً إلى توقعات الاقتصاد الكلي وأهداف السياسة المالية وأولويات الإنفاق - أن يساعد في فصل الإنفاق عن تقلب الإيرادات وتحسين إدارة ثروة الموارد الليبية. 

وذكرت البعثة أن تحسين أدوات تقدير التكاليف ووضع إطار مالي لإدارة الموارد سيكون بمثابة خطوة أولى حاسمة. ويمكن أن يتبع ذلك تحليل كشوف المرتبات، ومواءمة الاستثمار العام وعمليات الموازنة المتكررة، وإنتاج تقارير أكثر اكتمالا تتعلق بالموازنة. 

وأشارت إلى أن الحد من التشوهات الناجمة عن ارتفاع أجور القطاع العام والدعم يعد أمراً حيوياً لتحسين الحوافز وتخصيص الموارد، وتعزيز تكوين رأس المال وفرص العمل خارج القطاع العام. 

وشددت البعثة على ضرورة إعادة ترتيب أولويات الإنفاق لتعزيز النمو والكفاءة ودعم العدالة بين الأجيال، في حين ينبغي للسياسة الضريبية أن تهدف إلى تنويع مصادر الإيرادات بعيداً عن النفط.