- عمليّات التشويش على نظام الـGPS  تجرى بمعدّات غير متطوّرة وسهلة التصنيع

- غالبية المناطق التي تسجّل حالات تلاعب بإشارات الـ GPS هي مناطق تشهد حروباً وعمليّات عسكرية

- تبرز عديد من المخاطر الناجمة عن تضليل سير الطائرات المدنية..  أخطرها دخول الطائرات لمناطق عسكرية أو مدنية 

- المتضرّر الأول من هذه الأعمال هو المسافر، أي مكوِّن الرأي العام ودافع الضريبة وناخب المسؤولين

???? مروان شحيتلي- طيار في شركة طيران الشرق الأوسط

إن كنت قد شاهدت يوماً فيلماً يتضمّن ضمن أحداثه طائرة تتعرّض لحادثٍ ما، فعلى الأغلب أنك تتذكّر عبارة «Terrain Pull Up» التي تتردّد عبر الجهاز الآلي الصوتي الموجود في مقصورة القيادة، ويطلقها نظام (TAWS)«Terrain Awareness Warning System»، الذي يندرج ضمن مهامه إنذار الطيّارين في حال كانت الطائرة تتجّه وفق مسار غير طبيعي نحو الأرض. هذا النظام،وكما غيره من الأنظمة، يعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) المُعرّض للفشل بسبب القدرة على التلاعب بإشارات الأقمار الاصطناعية.

تعتمد الطائرات الحديثة على أجهزة ملاحة عدّة لتحديد موقعها ومسارها، بما فيها نظام الـGPS الذي يُعدّ الأكثر تطوّراً بينها. تلتقط الطائرة البيانات من هذه الأنظمة المختلفة، وتقوم بتحليلها وفقاً لدقة كلّ منها من أجل تحديد موقعها التقديري.

عمليات التشويش

منذ سنوات عدّة، برزت عمليّات تشويش على أجهزة الـGPS (معروفة بـ GPS Jamming) في مناطق تشهد نزاعات عسكريّة وحروب، وعلى الرغم من خطورة هذا التشويش، تبقى مخاطره محدودة نسبياً. في الأشهر السابقة، برزت عمليّات جديدة غير مشهودة سابقاً تقوم على التلاعب بإشارات الـGPS (أو GPS Spoofing) لتضليل الطائرات، وهو ما يشكّل خطورة كبيرة على سلامة الطيران المدني. 

تجري عمليّات التشويش على نظام الـGPS بمعدّات غير متطوّرة وسهلة التصنيع، على عكس عمليّات التلاعب بالنظام التي تحتاج إلى تقنيّات متطوّرة للغاية، وعلى الأرجح مملوكة من دول قوية عسكرياً وتمتلك أنظمة إلكترونية متطوّرة.

تلتقط هذه الأخيرة الإشارات المُرسلة عبر الأقمار الاصطناعية، وتتلاعب بها، ومن ثمّ تعيد إرسالها على أنها إشارة طبيعية، فتعتمد الطائرة عليها لتحديد موقعها التقديري.

لا تؤدّي هذه العمليّات إلى سلوك الطائرات مسارها دون الدقّة المطلوبة فحسب، كما يحدث عند التشويش على إشارات الأقمار الاصطناعية، بل قد تسفر أيضاً عن سلوكها مسارات مختلفة بالكامل عن مساراتها الأساسية، وهو ما يلقي مخاطر عدّة على سير الطائرات المدنية.

أبرز المناطق

غالبية المناطق التي تسجّل حالات تلاعب بإشارات الـ GPS هي مناطق تشهد حروباً وعمليّات عسكرية، وأبرزها منطقة الشرق الأوسط، وشرق البحر الأبيض المتوسّط، والحدود الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى المنطقة المحاذية لبحر البلطيق. 

وفي حين يصعب الجزم بهوية المتلاعبين بإشارات الأقمار الاصطناعية، يرجّح أن تكون القوّات الإسرائيلية والقوّات الروسية مشاركة بهذه العمليّات (اعترف الجيش الإسرائيلي مؤخراً بحظر أنظمة الـGPS لكن من دون شرح ما إذا كان هذا الحظر هو تشويش أو تلاعب بإشارات الأقمار الاصطناعية)، مع احتمال انخراط القوّات العسكرية الإيرانية بأعمال مشابهة وفق بعض الدراسات وأبرزها صادرة عن جامعة تكساس.

أمّا بالنسبة للجيش الأوكراني، فقد اعترف قائد الجيش الأسبق فاليري زالوغني بالتلاعب بإشارات الأقمار الاصطناعية عبر برنامج «بوكروفا». تهدف عمليات خداع نظام الـGPS إلى إضعاف دقّة مسارات الصواريخ الدقيقة والمسيّرات وتضليلها، ولكن بالوقت نفسه تلقي مخاطر كبيرة على سلامة الطيران المدني.

تبرز العديد من المخاطر الناجمة عن تضليل سير الطائرات المدنية، ويبقى أخطرها دخول الطائرات إلى مناطق عسكرية أو مدنية من دون ان يتم التعرّف عليها مما يجعلها عرضة لأسلحة الدفاع الجوّي، أو ارتطامها بالأرض أثناء صعودها وهبوطها. 

ويوجد في التاريخ أمثلة مشهورة عن قيام أنظمة الدفاعات الجوّية بإسقاط طائرات مدنية. في العام 1988 أثناء الحرب الإيرانية العراقية، أسقطت بارجة حربية أميركية رحلة الطيران الإيراني رقم 655 بصاروخ دفاع أرض-جو ظنّاً أنها طائرة حربية من طراز F-14.

وفي العام 2020، بعد 5 أيام من اغتيال قاسم سليماني، قام الحرس الثوري الإيراني بإسقاط طائرة مدنية تابعة للخطوط الأوكرانية متّجهة من طهران إلى كييف ظناً أنها صاروخ أميركي.

عمليات التضليل

وفي الحالتين المذكورتين، تمّ التعرّض للطائرتين المدنيتين في أجواء تشهد عمليّات عسكرية على الرغم من عدم خروجهما عن مسارهما. حالياً، لا تحلق الطائرات المدنية في مناطق تشهد عمليّات عسكرية فحسب، بل أيضاً تحلّق خارج مساراتها في تلك المناطق بسبب عمليّات التضليل التي تتعرّض لها أنظمة الـGPS، وهو ما يضاعف احتمال تصدّي القوات العسكرية لها على اعتبار أنها طائرات عسكرية أو مسيّرات حربية أو صواريخ موجّهة.

يكمن الخطر الثاني بفشل نظام TAWS، الذي يعدّ خطّ الدفاع الأخير في حال اتجاه الطائرة نحو الأرض بطريقة غير طبيعية. يمتلك هذا النظام خريطة إلكترونية لتضاريس العالم و ارتفاعات الأرض، ويقوم بمقارنة ارتفاع الطائرة ومكانها مع الخريطة الإلكترونية.

وفي حال كانت الطائرة تحلق على ارتفاع غير كافٍ لتفادي الارتطام بالأرض، ينذر نظام TAWS الطيّارين ويطلب منهم الصعود فوراً إلى ارتفاعات أعلى. أثناء التلاعب بنظام الـGPS، يظن الـTAWS أن الطائرة موجودة في مكان مختلف عن مكانها الفعلي، فيطلق إنذاراً خاطئاً في مقصورة القيادة، مما يدفع الطيّارين إلى إطفائه.

وعلى الرغم من تدنّي احتمالات وصول الطائرة إلى هذه الحالة أساساً، يبقى سير طائرة نحو الأرض فيما نظام الـTAWS مطفأً بمثابة تهديد قائم بذاته، وقد يكون مميتاً في بعض الأحيان، مونه خط الدفاع الأخير.


في المحصلة، المخاطر التي تواجهها الطائرات المدنية نتيجة التلاعب بإشارات الـGPS عديدة، وفي بعض الأحيان قد تكون كارثية، وهذا ما يوجب تحرّك الأطراف المعنية بشكل طارئ وملحّ لوقف هذه العمليّات.

من غير المقبول أن تتلاعب قوات عسكرية بإشارات الـGPS، مما قد يتسبب بكوارث بشرية، فيما يتمّ رمي المسؤولية على عاتق مصنّعي الطائرات وشركات الطيران والطيّارين من أجل خلق حلول للمخاطر الناجمة عن هذه الأعمال.

غير أنه حال وقوع كارثة، -وهناك سوابق على ذلك- يدفع الركّاب والطاقم والشركة المشغّلة الثمن الأكبر، بينما تكتفي الحكومات والقوّات المسلّحة بالاعتذار ودفع بدلات مادية لأهالي الضحايا. تقع مسؤوليّة هذه الأعمال على القوّات المسلّحة حصراً، وبالتالي يجب الضغط من أجل إيقاف هذه الأعمال إلى حين إيجاد طريقة تحمي الطائرات المدنية من الأعمال الحربية.

المسافر.. المتضرر الأول

المتضرّر الأول من هذه الأعمال هو المسافر، أي مكوِّن الرأي العام ودافع الضريبة وناخب المسؤولين، وبالتالي صاحب القدرة الأكبر على الضغط على أصحاب القرار. على المسافر أن يدرك هذه المخاطر التي تتعرّض لها الطائرات المدنية بسبب ممارسات القوات العسكرية، وأن يضغط على المعنيين للتحرّك لوقفها. أما المتضرّر الآخر فهم شركات الطيران، سواء التي تمتلك قواعد في مناطق النزاع، أو التي تقوم بأعمال تشغيلية فيها، أو حتى التي تستخدم المجالات الجوّية المعرّضة للتلاعب لتسيير رحلات بين مناطق ومدن قد لا تكون معنية بالنزاع حتّى؛ على سبيل المثال، انحرفت طائرة متّجهة من أوروبا إلى دبي أكثر من 100 كيلومتر عن مسارها منذ بضعة أشهر. 

تمتلك شركات الطيران، وخصوصاً الموجودة في الشرق الاوسط، قدرة ضغط كبيرة على حكوماتها، وعليها استخدام نفوذها من أجل وضع حدّ لعمليّات التلاعب بإشارات الـGPS. وبإمكان القطاع الخاص أيضاً، من مصنّعين ومشغّلين، الضغط من أجل حماية الطائرات المدنية التي تتأثّر بتلك الأعمال. 

إن مسؤولية حماية المدنيين أثناء الحروب والنزاعات العسكرية تقع أولاً على الحكومات والقوّات المسلّحة المشاركة فيها، ومن ثم على الدول الكبرى والمجتمع الدولي. إن التعرّض للأجهزة التي تعتمد عليها الطائرات المدنية وتعريضها للخطر، يستدعي تحرّكاً فورياً من جميع المعنيين، و في طليعتهم الرأي العام.

ففي حين تطوّر الطيران ليصبح أكثر أماناً من أي وقت مضى جرّاء عدّة اسباب وأهمّها التطوّر التكنولوجي، اصبح استخدام هذا التطوّر في التأثير السلبي على سلامة الطيران مُضراً للغاية، مما يؤدي إلى تدهور القطاع بأكمله. ولذلك، علينا تحييد الطيران المدني عن هذه الأعمال العسكرية.

شاهد أيضاً: وزير الطيران المصري لـ CNBC عربية: الإعلان عن طرح عالمي قريباً لإدارة وتشغيل المطارات المصرية


???? ما ورد في المقال يمثّل رأي الكاتب وليس بالضرورة CNBC عربية