بقلم أحمد معطي
المدير التنفيذي لشركة VI Markets في مصر
من الواضح ان البنوك المركزية أخذت قراراً واضحا باستمرارهم في محاربة التضخم العنيد، وذلك يأتي في توقيت لا تتراجع فيه بيانات التضخم بشدة، فمؤشر أسعار الانفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة الأمريكية تراجع بنسبة 0.1% فقط، أي من 4.7% إلى 4.6% على أساس سنوي، كما ان التضخم في الاتحاد الأوربي يصل إلى 4%، بالإضافة لارتفاع التضخم في إنكلترا إلى 5%.
ويأتي ذلك في ظل استمرار قوة التوظيف وتراجع معدلات البطالة ونمو الأجور، وبالتالي ترى البنوك المركزية أن الضغوط التضخمية ما زالت تلقي بظلالها على اقتصاداتها، وأنها بعيدة عن الوصول لمستهدفاتهم للتضخم عند 2%.
وبالتالي اضطر جيروم بأول إلى التأكيد في آخر خطاباته أن الفدرالي الأميركي مستمر في تشديد السياسة النقدية، وأنه من الممكن أن يتم رفع الفائدة مرتين قبل نهاية عام 2023، وهذا عكس ما كانت تتوقعه وتريده الأسواق، بالإضافة إلى لهجة تشديديه واضحة من كريستين لاغارد محافظة المركزي الأوروبي، والتي صرحت بأن التضخم لا يزال مرتفعاً للغاية ولا يزال من السابق لأوانه إعلان الانتصار على ارتفاع أسعار المستهلكين في منطقة اليورو. وبالتالي فإن البنك المركزي الأوروبي بحاجة إلى القول بوضوح بأن أسعار الفائدة ستبقى عند مستوياتها طالما كان ذلك ضروريًا، كما أكد أندرو بيلي محافظ بنك إنكلترا بأنهم مستمرون في رفع الفائدة، كما رأينا التحول في السياسة النقدية التركية من تيسيريه إلى تشديديه، وأكد المسؤولون السويسريون عدم استعدادهم لإنهاء إجراءات التشديد النقدي، حتى مع اقتراب معدل التضخم من 2%.
وبالتالي مع هذا النهج التشديدي للسياسة النقدية لأغلب البنوك المركزية الكبرى، أصبحت تتعالى الأصوات بأن العالم على وشك الدخول في حالة ركود اقتصادي عاجلاً أم آجلاً، فعلى سبيل المثال، صرح رئيس بنك أوف أمريكا بريان موينيهان إن بنك الفدرالي لن يصل إلى هدف التضخم البالغ 2% حتى عام 2025، ومن المرجح أن يضرب الركود الولايات المتحدة الأميركية في الجزء الأول من عام 2024، كما صرحت شركة إدارة الاستثمارات الأميركية بيمكو أنهم يستعدون لتباطؤ اقتصادي عالمي حاد.
فالسؤال الآن، هل بالفعل الاقتصاد العالمي سيتجه لحالة ركود؟ الحقيقة أننا تعلمنا في الاقتصاد أن كل السيناريوهات واردة وفقاً للمتغيرات والبيانات الاقتصادية والجيوسياسية, ولكن في رأيي أرى أن سيناريو الركود احتمالية حدوثه ضعيفة خاصة لأكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، وهما الولايات المتحدة الأميركية والصين، فالبيانات الاقتصادية تحدثت عن نمو الناتج المحلي لأجمالي في الصين إلى 4.5% مع توقعات المركزي الصيني بأن نصل إلى 5% في نهاية 2023، ونمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأميركية إلى 2% مع رفع الفدرالي الأميركي لتوقعاته للنمو الأميركي من 0.4% إلى 1% في نهاية 2023، ولا ننسى المارد الهندي والذي يسجل معدل النمو 6.1%.
وبالتالي هذا يعني أنه فعلياً لا يوجد سيناريو ركود في 2023، لأن تعريف الركود التقني هو تسجيل انكماش في معدلات النمو لربعين متتاليين، واذا نظرنا لمعدلات التوظيف خاصة وأن الرئيس بايدن طرح سابقاً سؤالاً عن كيفية الحديث عن سيناريو ركود في ظل توظيف قوي؟ وبالفعل فإن هذا منطقي تماماً، فتوظيف قوي يعني إنتاجاً أكثر بسبب طلبات مستهلكين الأكبر، وبالتالي فإن حدوث الركود أمر صعب، وهذا ما نراه فعلياً خاصة في الاقتصاد الأميركي في ظل معدلات بطالة قوية تبلغ 3.7%.
وإذا نظرنا لتصريحات كبار المسؤولين في أميركا خلال الأسبوع الماضي، سنجد أن الرئيس بايدن صرح خلال حملة لجمع التبرعات في ضواحي ماريلاند خارج واشنطن، إن الاقتصاديين يقولون إن الركود قادم الشهر المقبل. "لقد كان قادماً منذ 11 شهراً، فماذا حدث؟" واستشهد بسوق العمل الذي لا يزال قوياً وجهوده لكبح جماح التضخم، وأستبعد أن اقتصاد بلاده سيدخل في ركود، أيضاً هناك تصريح هام من جانيت يلين وزيرة الخزانة الأميركية أنه في حين تتباطأ أجزاء من اقتصادنا، فإن الأسر تنفق بوتيرة قوية والشركات تواصل الاستثمار فالاقتصاد الأمريكي أثبت أنه أكثر مرونة برغم توقعات الركود.
وهذا ما أتوقعه أيضاً، وإذا حدث ركود فسيكون في بعض القطاعات ولكن سنرى انتعاشه في قطاعات أخرى وخاصة قطاع الذكاء الاصطناعي والذي ساهم في انتعاش الأسهم الاميركية وارتفاع S&P500 بأكثر من 15% خلال آخر 6 أشهر، بالإضافة لارتفاع القيمة السوقية لشركة Apple إلى 3 تريليونات دولار.
كما أرى أنه وفي ظل قوة اقتصاد التنين الصيني وتأكيد الرئيس الصيني أنهم سيقومون بكل السبل المتاحة لدعم النمو الاقتصادي، رأينا بالفعل بوادر ذلك بخفض الفائدة من المركزي الصيني لدعم الاقتصاد، وبالتالي هذا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية لن تسمح لاقتصادها بأن يتراجع أمام منافسها الرئيسي وهو الصين، والدليل على ذلك أن أي أزمات تمر بها الولايات المتحدة الاميركية خلال الأشهر الماضية من الممكن ان تؤدي بها الركود قامت بحلها بالفعل وسريعاً، مثل أزمة سقف الدين وأزمة البنوك الأميركية، وحتى أن بنوك وول ستريت الكبرى اجتازت اختبار الإجهاد السنوي من الفدرالي هذا الأسبوع .
بالتالي أرى أن احتمالية حدوث ركود اقتصاد عالمي ضعيفة، ولكن من الممكن أن نرى تباطؤاً في النمو وركوداً في بعض القطاعات، وإذا حدث ركود تقني فسيكون في بعض الدول الناشئة والأوربية والتي تعاني من تشديد السياسة النقدية للدول الاقتصادية العظمى.