CNBC عربية- محمد خالد
بدأت الحرب في أوكرانيا -المستمرة منذ 24 فبراير/ شباط 2022- عامها الثالث، بينما لا تلوح في الأفق بوادر حقيقية لتسوية حاسمة بين الطرفين تُنهي الصراع الراهن، وتُهدئ في الوقت نفسه حالة "عدم اليقين" التي تلف الاقتصاد العالمي جراء ارتدادات الحرب واسعة المدى.
تسببت الحرب (أو العملية العسكرية في أوكرانيا كما تُطلق عليها روسيا) في خسائر واسعة المدى لعديد من الأطراف المنخرطة بشكل مباشر فيها، بما في ذلك الطرف الأوروبي الذي كان يعتمد بشكل واسع على واردات الغاز (المنقول عبر الأنابيب) من روسيا (اقرأ في هذا السياق: عامان من الحرب في أوكرانيا.. تغيرات واسعة بخارطة الطاقة / ملف خاص - CNBC عربية)
كما تأثر الاقتصاد الأوروبي بتبعات العقوبات التي فرضت على روسيا، وهي العقوبات التي فشلت في خنق موسكو اقتصادياً (اقرأ في هذا السياق: بعد عامين من الحرب.. لماذا فشل الغرب في خنق روسيا اقتصادياً؟ ملف خاص - CNBC عربية).
لكن على الجانب الآخر، فإن ثمة مستفيدين من تداعيات الحرب، بشكل مباشر وغير مباشر، ومن خلال زيادة صادرات الغاز إلى أوروبا لتعويض نقص الإمدادات الواردة من موسكو.. ويُمكن هنا الإشارة بشكل خاص إلى الولايات المتحدة ودول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وذلك علاوة على استفادة شركات الدفاع في الولايات المتحدة، وغير ذلك من أوجه الاستفادة الأخرى، بما في ذلك استفادة أطراف مثل الصين والهند من الواردات الطاقوية الروسية بتخفيضات الأسعار.
بينما على الجانب الآخر تئن البلدان الأوروبية تحت وطأة التداعيات الوخيمة للحرب على اقتصاداتها وبينما سعت لفطام نفسها عن واردات الطاقة الأوروبية.
الغاز المسال
انخفضت حصة غاز خطوط الأنابيب الروسية في واردات الاتحاد الأوروبي من أكثر من 40% في العام 2021 (قبل الحرب في أوكرانيا) إلى حوالي 8% في العام 2023 . وبالنسبة لغاز خطوط الأنابيب والغاز الطبيعي المسال مجتمعين، تمثل روسيا أقل من 15% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز.
دعمت هذا الانخفاض الزيادة الحادة في واردات الغاز الطبيعي المسال والانخفاض العام في استهلاك الغاز في الاتحاد الأوروبي.
وكانت النرويج والولايات المتحدة أكبر موردي الغاز في العام 2023.، وقد قدمت ما يقرب من 30% من إجمالي واردات الغاز. ومن بين الموردين الإضافيين دول شمال إفريقيا والمملكة المتحدة وقطر.
أما فيما يتعلق بالغاز الطبيعي المسال، ففي العام الماضي 2023، استورد الاتحاد الأوروبي أكثر من 120 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال.
وجاءت الولايات المتحدة الأميركية كأكبر مورد للغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي، حيث تمثل ما يقرب من 50٪ من إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال. وفي العام نفسه مقارنة بعام 2021، تضاعفت الواردات من الولايات المتحدة ثلاث مرات تقريباً.
"عندما يتعلق الأمر بالغاز الطبيعي المسال، فإن الشركاء الذين ساعدوا الاتحاد الأوروبي في ضمان أمنه سوف يستفيدون أيضاً في الأمد المتوسط"، في تقدير المؤسس المشارك لـ ECERA، خبير الطاقة أندريه كوفاتاريو، لدى حديثه مع CNBC عربية.
يضيف كوفاتاريو: "إننا نشهد توقيع عقود طويلة الأجل للغاز الطبيعي المسال القطري، كما شهدنا زيادة في الكميات القادمة من الولايات المتحدة.. لذا، بطبيعة الحال، سيستفيد هؤلاء الموردون من هذا الواقع الجديد".
ولكن هناك أيضًا زاوية أخرى يتعين وضعها في الاعتبار، فمع مسارعة أوروبا لنشر تكنولوجيات الطاقة النظيفة ــ ونظراً للقيود الحالية التي تواجهها فيما يتصل بالتعدين وتكرير بعض المواد الخام بالغة الأهمية اللازمة، فضلاً عن قدرتها المنخفضة نسبياً على تصنيع هذه الأصول محلياً، ـ فإن أحد الفائزين أيضاً هو الصين، التي من المؤكد أنها سوف تستفيد من هذا الاتجاه المتسارع، على الأقل في المدى القصير إلى المتوسط".
الصين في الصورة
يؤيد كوفاتاريو في ذلك الباحث الروسي، ديمتري بريجع، والذي يقول لـ CNBC عربية، إن الصين من بين المستفيدين الرئيسيين من الحرب في أوكرانيا، ولجهة تغير خريطة الطاقة.
يأتي جانب من تلك الاستفادة من حصول بكين على واردات الطاقة "المخفضة" من جانب روسيا بعد تقطع السبل بها مع أوروبا.
وكانت روسيا في العام 2023 أكبر مورد للنفط في الصين، لا سيما مع بيع روسيا النفط بتخفيضات، علاوة على التسهيلات والحوافز التي تقدمها موسكو لبكين.
ووفق بيانات الجمارك الصينية، فإن موسكو شحنت 107.02 مليون طن متري من النفط الخام إلى الصين العام الماضي، وهي كميات قياسية تعادل 2.14 مليون برميل يومياً، وبما يزيد كثيراً على وارداتها من مصدرين رئيسيين آخرين مثل السعودية والعراق.
ويشير الباحث الروسي في السياق نفسه إلى أن "الولايات المتحدة، وبالنظر إلى حجم صادراتها من الغاز الطبيعي المسال والعقود المبرمة مع أوروبا، من بين أبرز المستفيدين بشكل أساسي من تداعيات الحرب"، كذلك يشير إلى وجه آخر من الاستفادة، مرتبط بشكل أساسي بقطاع الدفاع، حيث الشركات المصنعة للأسلحة.
قطر
وإلى ذلك، تشير خبيرة الغاز والنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لوري هايتايان، إلى أن قطر تأتي ضمن الدول المستفيدة في سياق تبعات الحرب في أوكرانيا، بالنظر إلى صادراتها من الغاز.
وتشدد على أنه "لا شك أن شركات الغاز، خاصة الأميركية، هي المستفيدة الأكبر من الانهيار الحادث في العلاقات بين أوروبا وروسيا، لا سيما أن نسبة من 40 إلى 50% من حاجات أوروبا من الغاز تأتي من الغاز المسال الوارد من الولايات المتحدة"، لافتة في الوقت نفسه إلى المستهدفات الأميركية لمضاعفة الإنتاج في السنوات المقبلة.
وتتابع: "حتى مع التوقف عن منح عقود جديدة (قرار الرئيس الأميركي جو بايدن الخاص إيقاف تراخيص موانئ تصدير جديدة) فإن الاستثمارات والعقود الحالية تعمل وسوف تزيد بمعدل ضعفي الإنتاج الأميركي الحالي (..)".
المساعدات الأميركية لأوكرانيا
من روسيا، يقول الاستاذ بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، رامي القليوبي، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية: إن استفادة الولايات المتحدة الأميركية من الحرب في أوكرانيا ليست فقط استفادة اقتصادية، إنما واشنطن من أكبر المستفيدين اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً. ويستطرد: "إذا نظرنا لتاريخ الولايات المتحدة في القرن العشرين، فإن أحد الأسباب الرئيسية لازدهارها هو بعدها الجغرافي عن جبهة الحربين العالميتين الأولى والثانية".
ويحاجج عدد من المراقبين بالمساعدات التي تقدمها واشنطن إلى كييف؛ على اعتبار أن الولايات المتحدة تدفع فاتورة الحرب لدعم حلفائها، وبما يعكس ما تمثله الحرب من ثقل على كاهل الإدارة الأميركية، ووسط الأصوات المناوئة لتقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا.
وبحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فإنه منذ (الحرب في أوكرانيا) أرسلت إدارة الرئيس جو بايدن أكثر من 75 مليار دولار نقداً، علاوة على معدات إلى كييف للدفاع عنها. وقد ذهبت معظم المساعدات إلى العمليات العسكرية في أوكرانيا، ما أدى إلى استمرار حكومتها في العمل وتلبية احتياجاتها الإنسانية.
وقدمت الولايات المتحدة أكثر من 44 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا منذ بدء الحرب، وهو ما يزيد عن أكبر أربعة مساهمين - ألمانيا وبريطانيا والنرويج والدنمارك - مجتمعين، وفقًا لمعهد Kiel للاقتصاد العالمي.
وكان ما يقرب من 40% من المساعدات الأميركية لأوكرانيا "لأغراض غير عسكرية". ويشمل ذلك الإنفاق على الاحتياجات الإنسانية مثل إيواء اللاجئين والدعم الاقتصادي المباشر للحفاظ على أداء الحكومة الأوكرانية.
غير أن الباحث المتخصص في الشؤون الروسية، يقول في هذا السياق: "فعلياً نحن نتحدث عن مساعدات أميركية بعشرات المليارات من الدولارات إلى أوكرانيا، لكنها عملياً أغلبها مساعدات تبقى في الداخل الأميركي وتؤدي إلى تشغيل المصانع الحربية الأميركية، وبالتالي تسهم بشكل غير مباشر في عجلة الاقتصاد"، لافتاً في الوقت نفسه إلى إنماء واشنطن لحصتها من الغاز المسال في السوق الأوروبية.
مساعدات أم استثمار بشركات الدفاع؟
وفي هذا السياق، وتحت عنوان "مساعدات أم استثمار"، ذكر تقرير نشره wilsoncenter، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن المساعدات الأميركية لأوكرانيا "ساعدت الاقتصاد الأميركي على الازدهار ووفرت فرص العمل للأميركيين، في حين قوضت الاستعداد العسكري الروسي".
وأفاد التقرير بأن "معظم الأموال المخصصة للمساعدات العسكرية لأوكرانيا تبقى في الولايات المتحدة، وخاصة في الوظائف مع الشركات المصنعة الأميركية".
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن، قد ذكر في خطاب سابق له أنه: عندما نستخدم الأموال التي خصصها الكونغرس (لدعم أوكرانيا)، فإننا نستخدمها لتجديد مخزوننا، وإمداداتنا من المعدات الجديدة التي تحمي أميركا والمصنوعة في أميركا".
وقد كان لهذا بالفعل تأثير إيجابي على صناعة الدفاع الأمريكية، وفق wilsoncenter، والذي يشير في تقريره إلى أن الشركات المصنعة للذخائر والصواريخ لأنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة، وهي أنظمة آلية عالية الحركة تطلق صواريخ أرض-أرض بدقة استهداف، تشهد أكبر طفرة حالياً.
على سبيل المثال، قامت إحدى الوحدات التابعة لشركة General Dynamics التي تنتج تكنولوجيات بالغة الأهمية مثل المركبات المدرعة والمدفعية، بزيادة إيراداتها بنحو 25% مقارنة بالعام السابق. وتخطط الشركة لزيادة إنتاج بعض الذخائر سبع مرات.
وكمثال آخر، تلقت شركة RTX، الشركة المصنعة لصواريخ AIM-120 AMRAAM – صواريخ جو-جو متقدمة متوسطة المدى فعالة خارج المدى البصري – طلبات جديدة بأكثر من 3 مليارات دولار منذ فبراير/ شباط 2022.
وقد زادت مبيعات الأسلحة بالفعل بنسبة 6% هذا العام في شركة Northrop Grumman، التي تنتج صواريخ HIMARS وM270 MLRS..
وفي حين أن الولايات المتحدة هي إلى حد بعيد أكبر داعم عسكري لأوكرانيا في العالم، فإن الدعم المالي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي، والذي يبلغ 79.1 مليار دولار، يفوق المساهمة المالية الأميركية، وفقًا لمعهد Kiel.
أوروبا.. الخاسر الأكبر
ويضيف القليوبي: "لا شك أن هذا ينعكس سلباً على أوروبا، التي ظهرت على مدى العامين الماضيين كتابع للولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.. وبطبيعة الحال هي (أوروبا) تدفع الفاتورة الأكبر من الجهة الاقتصادية بين الأطراف المشاركة في النزاع".
غير أن القليوبي يشير إلى أن أوروبا تُبدي استعداداً لتحلم تكاليف أزيد، وهو ما يؤدي لتزايد معدلات الفقر وتفاقم الصراعات وتراجع المؤشرات بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة، إلا أنه "لا مجال للحديث عن انهيار الاقتصاد الأوروبي كما يحاول الإعلام الروسي أن يروج، فعلى الرغم من أن الخسائر الاقتصادية الأوروبية بمئات المليارات، إلا أنه في نهاية المطاف هذه دول كبرى قادرة عن التحمل لفترة أطول".