رانيا برو- محررة في CNBC  عربية

 

وسط تراجع اقتصادي عام في فرنسا، في قطاعات هامة كالصناعة والخدمات، وتراجع الثقة الشعبية بآداء الحكومة والتوظيف ومخاوف المهاجرين، تركز الحكومة حالياً على الضرائب المستحدثة من أجل معالجة الميزانية ودعم الاقتصاد، في ظل أجواء محمومة بين اليمين واليسار والوسط استعداداً للانتخابات واحتجاجات شعبية ضخمة.

انطلقت الحملة الانتخابية في فرنسا بشكل جدي، الاثنين 17 يونيو/ حزيران، بعد عطلة نهاية أسبوع من الاحتجاجات العنيفة على مستوى البلاد ضد حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي أدت مكاسبه القياسية في البرلمان الأوروبي إلى التصويت المبكر.

وفي عطلة الأسبوع، خرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع للاحتجاج على المشاعر القومية المتزايدة التي تتبناها زعيمة الحزب مارين لوبان وتلميذها البالغ من العمر 28 عاماً رئيس حزب الجبهة الوطنية جوردان بارديلا، الذي ترشحه لوبان لرئاسة الوزراء.

وسار نحو 250 ألف شخص في باريس ومدن أخرى في جميع أنحاء البلاد بعد أن دعت النقابات العمالية وجماعات حقوق الإنسان إلى الاحتجاجات، وفقًا لتقديرات الشرطة التي نقلتها صحيفة لوموند الفرنسية. وقالت نقابة CGT لشبكة CNBC إنها أحصت 640 ألف متظاهر في جميع أنحاء البلاد يوم السبت.

شاهد أيضاً: الدين العام من أبرز التحديات أمام الحكومة الفرنسية.. لكن هل فرنسا ستستطيع الإيفاء بتعهداتها؟

تسببت "مقامرة" إيمانويل ماكرون، بحسب وصف الصحف الفرنسية، في الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، في ظل مساعيه للعثور على غالبية مستقرة لم يحصل عليها منذ إعادة انتخابه لولاية ثانية في العام 2022، في حدوث انقسام في اليمين وبين سائر شرائح المجتمع الفرنسي. 

وفي صراع لصيق بالانتخابات وألعابها السياسية، يشكل الاقتصاد مادة أساسية في الانتخابات. 

الاقتصاد في خطر

وفي هذا الإطار، يطرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خفض الضرائب، سواء على الشركات أو الطبقة المتوسطة من أجل حمايتهم وتقليص الضغوط، لكن المؤسسات المالية، على رأسها بنك فرنسا المركزي تعارض هذا الطرح.

 ودعا محافظ البنك المركزي الفرنسي فرانسوا فيليروي دي غالو، ماكرون، إلى ضرورة توقف الحكومة عن خفض الضرائب ما لم تكن لديها طرق أخرى لتمويل العجز في الإيرادات. وذلك بهدف إصلاح الموازنة، بالنظر إلى ديون فرنسا المتزايدة وعجز الميزانية الأكبر من المتوقع مقارنة بما قبل ارتفاع أسعار الطاقة.

مخرج التمويل الذي تم طرحه لتخفيف العجز يأتي بعد سلسلة تقارير عن الوضع الخطير الذي وصل إليه الاقتصاد الفرنسي.

 في مايو / أيار الماضي، تراجع معدل نمو اقتصاد فرنسا إلى أقل مستوى له خلال 4 أشهر، حيث فقد قطاع الخدمات الزخم. 

وانخفض مؤشر مديري المشتريات المجمع لفرنسا، كما أعلنت الشركات الفرنسية عن تدهور الطلب، وتراجعت ثقتها لأدنى مستوى في 5 أشهر، بينما انخفض إجمالي عدد الوظائف الجديدة لأول مرة منذ فبراير/ شباط الماضي، وفقاً لمسح أجرته إس آند بي غلوبال. 

في المقابل، سجّلت الخدمات زيادة طفيفة في الإنتاج مقارنة بالتوسع القوي لشهر أبريل/ نيسان، في حين شهد قطاع التصنيع انخفاضاً للمرة 12 على التوالي في الإنتاج.

اقرأ أيضاً: بأعلى من توقعات الحكومة.. صندوق النقد يتوقع عجز ميزانية فرنسا بنسبة 4.5%

وسجّلت الشركات تراجعاً في المبيعات، مشيرة إلى خسارة العملاء والتضخم وانخفاض الإنفاق. كما استمرت الطلبيات الصناعية الجديدة في الانخفاض بشكل حاد، بينما لا تزال الشركات المنتجة للسلع تشهد تدهوراً سريعاً في الطلب من الخارج.

ترميم الموازنة

حيال هذه الأرقام الصعبة، طرحت الأوساط الاقتصادية فرض ضريبة جديدة تتراوح عائداتها بين 2 و3 مليارات يورو على شركات تشغيل الطرق السريعة بحلول 2030، بعد حكم المحكمة الإدارية الفرنسية الذي يسمح للحكومة بفرض رسوم جديدة على هذه الشركات. 

البحث عن طرق ترميم الموازنة، أوصل إلى طلب فرض مزيد من الضرائب على الأثرياء، وعلى المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي، وأيضاً اقتطاع جزء من المساعدات التي تقدم إلى المتقاعدين المغتربين خارج البلاد لفترات طويلة.

وأعربت السلطات عن أملها في أن تتمكن من تحصيل إيرادات إضافية تصل إلى 50 مليون يورو، 53.75 مليون دولار. ويمكن فرض ضرائب الممتلكات بأثر رجعي لمدة أربع سنوات على المسابح غير المعلنة. وسيتعين على من تم ضبطهم دفع مبلغ 375 يورو للبلديات التي ينتمون إليها.

رغم أن الجدال حامٍ حول المخارج الاقتصادية للأزمة في فرنسا، تعول الحكومة على تحقيق أداء أقوى للحفاظ على المسار الصحيح مع خطة لخفض العجز متعددة السنوات قدمتها قبل شهرين فقط. ومع ذلك، وضع لو مير أيضاً خططاً لتحقيق وفرة إضافية مقدارها 10 مليارات يورو، ما يقارب 10.9 مليار دولار، سنوياً بحلول عام 2027.

إلى ذلك، أعلن المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا، الأسبوع الماضي، أنه يتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.6 بالمائة فقط العام الحالي، زذلك لأن ارتفاع التضخم وارتفاع أسعار الفائدة أديا إلى تراجع الاستثمارات.

مخاوف قادة القطاع التجاري 

قادة القطاع التجاري في فرنسا يتخوفون من مرحلة جديدة من عدم اليقين بسبب الانتخابات المبكرة التي قد تعزّز موقع اليمين المتطرف.

وتُظهر الاتحادات المعنية بالقطاع حذراً، حيث قال رئيس مجموعة الشركات المحلية يو2بي U2P ميشال بيكون، لوكالة فرانس برس، إن المجموعة “ستحترم خيار الناس، لكن على حزب التجمع الوطني أن يقول بشكل أكثر دقة ما يقترحه بشأن المسائل ذات التأثير الضريبي والاجتماعي والاقتصادي على الشركات الصغيرة”.

وذكّر بأنه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في العام 2022، حذّر قادة القطاع من أن وعود زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبن “ستكون لها عواقب وخيمة على الأنشطة التجارية”.

وثمّة قضايا عدة على المحك، بينها إعادة سن التقاعد الرسمي إلى 60 عاماً، بعدما رُفع إلى 64 عاماً في إصلاح غير شعبي أقرّه ارئيس الفرنسي العام الماضي، فضلاً عن تشديد القيود المرتبطة بسياسات الهجرة.

وفق الاقتصاديين، تميزت ولاية ماكرون الوسطي بإصلاحات سعت إلى تسهيل أمور الشركات وجذب الاستثمارات الاجنبية الكبيرة. 

وحث وزير المال الفرنسي برونو لومير  الشركات على "تحدي" اليمين المتطرف.

وأضاف أنه يتعين على المجموعات، ومن بينها منظمة أصحاب العمل الفرنسية "ميديف" أن "تقول بوضوح رأيها في البرامج الاقتصادية لمختلف الأحزاب" وأن تحذّر من "تكلفة خطط مارين لوبان الماركسية". 

من جانبه، دعا اتحاد الشركات الصغيرة والمتوسطة CPME إلى مواصلة السياسات الهادفة لزيادة الانتاجية والفاعلية وخفض انبعاثات غازات الدفيئة والمضي قدماً بإصلاحات دولة الرفاه. 

بالتالي حذرت منظمة أصحاب العمل من تراكم ديون فرنسا البالغة ثلاثة تريليونات يورو، نحو 3.2 تريليون دولار، والتي قالت وكالة موديز، الأسبوع الماضي، إنها معرضة لخطر خفض التصنيف الائتماني بسبب عدم  الاستقرار السياسي المحتمل في الانتخابات المقبلة. 

مخاوف قطاع الطاقة

ومن بين القطاعات التي لديها مخاوف كبيرة من فوز اليمين المتطرف، قطاع الطاقة المتجددة، الذي ينتظر منذ أشهر خريطة طريق حكومية تمتد حتى عام 2035 وتتضمن بنوداً مثل مواقع حقول الرياح البحرية الضخمة.

وقال رئيس اتحاد الطاقات المتجددة جول نيسن إن"ما يحدث خطر".

وأضاف "نحن في حالة عدم استقرار تام في وقت نحتاج إلى وضوح وضمانات قانونية"، معتبراً أن "الأمر سيكلفنا غالياً". 

وقال رئيس جمعية يونيدن UNIDEN التي تضم كبار مستخدمي الطاقة الصناعية “لدينا خريطة طريق واضحة نحتاج إليها لمكافحة انبعاثات الكربون”. 

أضاف "المهم بالنسبة لنا هو الحصول على كهرباء منخفضة الكربون بأسعار تنافسية، سواء كانت نووية أو متجددة". 

في 2022 وعدت لوبن ببناء حوالى 20 مفاعلاً نووياً جديداً، علماً بأن الجدول الزمني الذي حددته لتسليم نصف هذه المفاعلات في 2031 اعتُبر غير واقعي. 

لكن لوبن أيضاً من أشد المعارضين للطاقة المولَدة من الرياح، وتعهدت وقف مشاريع بناء حقول جديدة والتفكيك التدريجي للحقول القائمة، وهي خطط تتعارض مع التزامات فرنسا المناخية. 

أحوال الاقتصاد الفرنسي، دخلت في الصراع الانتخابي، وارتفع خطاب حزب ماكرون وحلفائه للتحذير من خطورة أن تصبح فرنسا تحت خطر أزمة مالية، في حالة انتصار التجمع الوطني وهذا ما قاله وزير الاقتصاد برونو لومير، صراحة في لقاء تلفزيوني. 

كراهية المهاجرين

ومن النقاط التي تثير مخاوف الفرنسيين، هو معاداة اليمين المتطرف للمهاجرين. حول هذه المسألة يقول أحمد شمس الدين الناشط في حركة "الجمهورية إلى الأمام" التي كان أسسها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون: "يقترح التجمع الوطني العنصرية وكراهية الأجانب القصوى، التخلي عن الجنسيات المزدوجة. تخيل المخاطر إذا وصل هذا الطرف إلى القدرة على البدء في استدعاء العمال الأجانب خارج فرنسا، بما في ذلك الممرضين والممرضات الذين يشكلون 20% من الجسم التمريضي". 

ولفت شمس الدين إلى أن مارين لوبن دعت في 2017 إلى وضع حد للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين على حد سواء وهذا يهدد النظام الوظيفي في البلاد.

هذه المسألة، دفعت نجم كرة القدم كيليان مبابي، إلى توجيه رسالة "ضد التطرف" الأحد، من دون الانحياز رسمياً إلى جانب واحد.

وقال قائد منتخب فرنسا "أنا ضد المتطرفين، وضد الأفكار التي تقسم"، داعياً الشباب إلى التصويت. وأضاف "نحن نرى أن التطرف على أبواب السلطة، ولدينا الفرصة لاختيار مستقبل بلدنا".

كل هذه القضايا الشائكة تضع فرنسا تحت وطأة ثقيلة ستستمر حتى يوم 30 حزيران/ يونيو، في يوم الاقتراع الذي سيسلم البلاد واقتصادها إلى حكم جديد يقوده اليمين أو اليسار، لا يمكن الجزم بعد. في كلا الحالتين الأزمة الاقتصادية حرجة والخروج منها يحتاج إلى إجراءات صارمة.