عانت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة من موجة كبيرة من ارتفاع أسعار المستهلكين ووصل معدل التضخم خلالها إلى أعلى مستوياته في عقود، وذلك قبل أن ينخفض من هذا المستوى بعد اتجاه الفدرالي الأميركي لتشديد السياسة النقدية منذ عام 2022.

وقد يتهم البعض السياسات التي طبقها الرئيسان الحالي جو بايدن والسابق دونالد ترامب بالتسبب في هذه الموجة التضخمية، لكن اقتصاديين يقولون إن سبب التضخم المرتفع ليس واضحاً بشكل حاسم، وإن بايدن وترامب ليسا مسؤولين عن الكثير من التضخم الذي شهده المستهلكون في السنوات الأخيرة.

كانت المناظرة الرئاسية الأخيرة يوم 27 يونيو/ حزيران في الولايات المتحدة بين بايدن وترامب، المرشحين لانتخابات الرئاسة القادمة (حتى الآن)، شهدت تبادل اتهامات لاذعة بين المرشحين فيما يتعلق بالاقتصاد. وكان التضخم المرتفع في عصر وباء كوفيد- 19 من بين أحد أهم الموضوعات المثارة خلال المناظرة.

قال ترامب عن بايدن خلال المناظرة: "لقد تسبب في التضخم". وأضاف: "أعطيته دولة لا يوجد بها تضخم في الأساس".

ورد بايدن بالقول إن التضخم كان منخفضاً خلال فترة ولاية ترامب لأن الاقتصاد "كان مستقراً على ظهره (أي ضعيف ولا نشاط فيه)".

قال بايدن: "لقد أهلك الاقتصاد، لقد أهلك الاقتصاد تماماً".

لا لوم على ترامب أو بايدن

وقال اقتصاديون، لشبكة CNBC، إن الأحداث العالمية الخارجة عن سيطرة ترامب أو بايدن أحدثت ضرراً بديناميكيات العرض والطلب في الاقتصاد الأميركي، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار.

وكانت هناك عوامل أخرى أيضاً، بحسب تقرير الشبكة

فعلى سبيل المثال، كان الفدرالي الأميركي، الذي يعمل بشكل مستقل عن البيت الأبيض، بطيئاً في التحرك لاحتواء التضخم الساخن. ومن المرجح أيضاً أن بعض سياسات بايدن وترامب، مثل حزم الإغاثة من الأوبئة، لعبت دوراً في ما يسمى "التضخم الجشع".

قال مدير مركز هاتشينز للسياسة المالية والنقدية في معهد بروكينغز، ديفيد ويسل: "لا أعتقد أنها إجابة بسيطة بنعم أو لا".

وأضاف: "بشكل عام، يحصل الرؤساء على المزيد من المديح واللوم فيما يتعلق بالاقتصاد أكثر مما يستحقون".

اقرأ أيضاً: ترامب وبايدن يتحدان على التعريفات الجمركية التي قد ترفع الأسعار على الأمريكيين

يُنظر إلى بايدن على أنه ساهم في ارتفاع معدلات التضخم ويرجع ذلك إلى حد ما إلى بعض العوامل: فقد تولى منصبه في أوائل عام 2021، في الوقت الذي ارتفع فيه التضخم بشكل ملحوظ، على حد قول الاقتصاديين.

وعلى نحو مماثل، دفعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19) الولايات المتحدة إلى ركود حاد خلال فترة ولاية ترامب، مما دفع مؤشر أسعار المستهلك إلى ما يقرب من الصفر في ربيع عام 2020 مع تضخم البطالة وتراجع إنفاق المستهلكين.

وقال كبير الاقتصاديين في وكالة Moody’s Analytics، مارك زاندي: "من وجهة نظري، لا يقع اللوم على ترامب ولا بايدن في ارتفاع التضخم". "اللوم يقع على الوباء والحرب الروسية في أوكرانيا".

الأسباب الرئيسية لارتفاع التضخم

بحسب تقرير CNBC، يرجع التضخم الساخن في الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية لحد كبير إلى عدم تطابق العرض والطلب، وقلب الوباء الديناميكيات النموذجية في هذا الإطار رأساً على عقب. 

فمن ناحية العرض، أدى الوباء إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية. كما كان هناك نقص في العمالة لعدة أسباب منها المرض نفسه، وإغلاق مراكز رعاية الأطفال أبوابها، مما جعل من الصعب على الآباء العمل، كما كان هناك آخرون قلقين بشأن الإصابة بالوباء أثناء العمل. وقال الاقتصاديون إن انخفاض الهجرة أدى أيضاً إلى تراجع المعروض من العمال.

كما أغلقت الصين المصانع ولم تتمكن سفن الشحن من تفريغ حمولتها في الموانئ، مما أدى إلى انخفاض المعروض من السلع.

وعلى جانب الطلب، غير المستهلكون أنماط الشراء الخاصة بهم، واشتروا المزيد من الأشياء المادية مثل أثاث غرفة المعيشة والمكاتب لمكاتبهم المنزلية حيث كانوا يقضون المزيد من الوقت في البيت، وهو ما يعد خروجاً عن معايير ما قبل الوباء، عندما كان الأمريكيون يميلون إلى إنفاق المزيد من الأموال على خدمات مثل تناول الطعام خارج المنزل، والسفر، والذهاب إلى مشاهدة الأفلام والحفلات الموسيقية.

وأدى ارتفاع الطلب، الذي ازدهر عندما أعيد فتح الاقتصاد الأميركي على نطاق واسع، إلى جانب نقص السلع، إلى ارتفاع الأسعار.

اقرأ أيضاً: 16 اقتصادياً حائزاً على جائزة نوبل: ولاية ترامب الثانية قد "تشعل" التضخم

وكانت هناك عوامل أخرى ذات صلة أيضاً. من بين هذه العوامل أنه لم يكن لدى شركات صناعة السيارات ما يكفي من رقائق أشباه الموصلات اللازمة لتصنيع السيارات، في حين باعت شركات تأجير السيارات أساطيلها لأنها لم تعتقد أن الركود سيكون قصير الأجل، وهو ما جعل الإيجار أكثر تكلفة عند انتعاش الاقتصاد بسرعة، كما قال ديفيد ويسيل.

وقال زاندي إنه مع وصول حالات الإصابة بفيروس كورونا إلى مستويات قياسية مع اقتراب عام 2022، أدى إلى مزيد من تعطيل سلاسل التوريد، فإن الحرب الروسية الأوكرانية "أدت إلى زيادة" التضخم من خلال التسبب في ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل النفط والغذاء في جميع أنحاء العالم.

ونتيجة لذلك، وصل التضخم العالمي إلى مستوى "أعلى مما شهدناه منذ عدة عقود"، كما كتب صندوق النقد الدولي في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

وقال نائب كبير الاقتصاديين في أميركا الشمالية في شركة Capital Economics، ستيفن براون: "كل ما علينا فعله هو أن ننظر إلى معدلات التضخم التي لا تزال مرتفعة في معظم الاقتصادات المتقدمة الأخرى لنرى أن معظم فترة التضخم هذه كانت في واقع الأمر تتعلق بالاتجاهات العالمية... وليست بالإجراءات السياسية المحددة التي اتخذتها أي حكومة معينة (رغم أنها بالطبع لعبت دوراً ما) ".

تأثير فواتير الإنفاق

ومع ذلك، فإن بايدن وترامب ليسا خاليين من الأخطاء تماماً: فقد أعطيا الضوء الأخضر للإنفاق الحكومي الإضافي في عصر الوباء الذي ساهم في التضخم، على سبيل المثال، كما قال الاقتصاديون.

على سبيل المثال، قدمت خطة الإنقاذ الأميركية - حزمة التحفيز البالغة 1.9 تريليون دولار والتي وقعها بايدن في مارس/ آذار 2021 - شيكات تحفيز بقيمة 1400 دولار، وإعانات بطالة معززة، وائتمان ضريبي أكبر للأطفال، بالإضافة إلى إعانات أخرى.

وقال مدير دراسات السياسة الاقتصادية في معهد أميركان إنتربرايز، مايكل سترين، إن هذه السياسة أدت إلى "بعض الأشياء الجيدة"، مثل سوق عمل قوي وانخفاض البطالة.

لكنه أشار إلى أن حجمها كان أكبر مما يحتاجه الاقتصاد الأميركي في ذلك الوقت، مما أدى إلى رفع الأسعار عن طريق وضع المزيد من الأموال في جيوب المستهلكين، مما أدى إلى زيادة الطلب.

وقال سترين: "أعتقد أن الرئيس بايدن يتحمل بعض المسؤولية عن التضخم الذي كنا نعيشه خلال السنوات القليلة الماضية".

وقدر سترين أن خطة الإنقاذ الأميركية أضافت حوالي نقطتين مئويتين إلى التضخم الأساسي. 

كان معدل التضخم الأميركي وصل إلى ذروته، عند حوالي 9% على أساس سنوي، في شهر يونيو/ حزيران 2022، وهو أعلى مستوى منذ عام 1981. وانخفض منذ ذلك الحين إلى 3.3% اعتباراً من مايو/ أيار 2024. في حين يستهدف الفدرالي الأميركي معدل تضخم طويل الأجل عند حدود 2%.

ومع ذلك، اعتبر زاندي التأثير التضخمي لخطة الإنقاذ الأميركية "جيداً" و"مرغوباً فيه"، حيث أعاد الاقتصاد إلى معدل التضخم المستهدف طويل المدى للفدرالي بعد فترة طويلة من التضخم أقل من المتوسط.

كما أجاز ترامب حزمتي تحفيز، في مارس/ آذار، وديسمبر/ كانون الأول 2020، بقيمة نحو 3 تريليونات دولار.

اقرأ أيضاً: وزير الخزانة الأميركية السابق يحذر من تداعيات اقتصادية حال عودة ترامب لحكم أميركا

وقال ويسيل إن ما يسمى باستجابات "السياسة المالية" كانت بمثابة تأمين ضد التعافي الاقتصادي الرديء، لكنه ربما تجاوز الحد، موضحاً أن إصدار الولايات المتحدة ربما الكثير من التحفيز كان خطأ الرئيسين، لكنه "لا يتضح إلا بعد فوات الأوان".

وقال الاقتصاديون إن بايدن وترامب سنا أيضاً سياسات أخرى ربما ساهمت في ارتفاع الأسعار.

على سبيل المثال، فرض ترامب تعريفات جمركية على واردات الصلب والألومنيوم والعديد من السلع من الصين، والتي أبقى عليها بايدن كما هي إلى حد كبير. كما فرض بايدن ضرائب استيراد جديدة على البضائع الصينية مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية.

الفدرالي الأميركي و"التضخم الجشع"

يقول الاقتصاديون إن مسؤولي الفدرالي الأميركي يتحملون أيضاً بعض المسؤولية عن التضخم.

ومن أجل التوضيح أكثر فإن البنك المركزي يفترض أن يستخدم أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، حيث تؤدي زيادتها إلى رفع تكاليف الاقتراض للشركات والمستهلكين، مما يؤدي إلى تهدئة الاقتصاد وبالتالي التضخم.

وقال اقتصاديون إنه رغم رفع الفدرالي لأسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها في نحو عقدين من الزمن، فإنه كان بطيئاً في التصرف عند بداية الأمر، حيث رفع الفائدة لأول مرة في مارس/ آذار 2022، أي بعد حوالي عام من بدء ارتفاع التضخم.

وقال سترين إن البنك انتظر أيضاً طويلاً قبل أن يعود إلى "التيسير الكمي"، وهو برنامج لشراء السندات يهدف إلى تحفيز النشاط الاقتصادي.

وقال زاندي عن سياسة الفدرالي: "لقد كان ذلك خطأ". "لا أعتقد أن أي شخص كان سيفعل ذلك بشكل صحيح في ظل الظروف، ولكن بعد فوات الأوان كان خطأً".

وأشار بعض المراقبين أيضاً إلى ما يسمى "التضخم الجشع" - فكرة استغلال الشركات لشماعة التضخم المرتفع من أجل رفع الأسعار أكثر من اللازم، وبالتالي تعزيز الأرباح - كعامل مساهم.

وقال الاقتصاديون إنه من غير المرجح أن يكون هذا سبباً للتضخم، على الرغم من أنه ربما ساهم بشكل طفيف.

وقال ويسيل: "تبحث الشركات دائماً عن فرصة لرفع الأسعار عندما تستطيع ذلك". "أعتقد أنهم استغلوا المناخ التضخمي، لكنني لا أعتقد أنهم تسببوا فيه".