تتعثر مسيرة ألمانيا نحو التحول إلى قوة عالمية في صناعة الرقائق الإلكترونية، وذلك بعد فشل مشروع عملاق التكنولوجيا إنتل في إنشاء مصنع ضخم على أراضيها. هذه الضربة أزاحت الستار عن تحديات تواجه أوروبا في سباق التكنولوجيا العالمي، وفتحت الباب أمام تساؤلات حول قدرة القارة العجوز على منافسة القوى الآسيوية المتصاعدة في هذا المجال الحيوي.

فهل يعني فشل إنتل نهاية حلم ألمانيا وأوروبا في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الرقائق الإلكترونية، أم أنها مجرد عثرة مؤقتة في طريق طويل؟ وما هي تداعيات هذا الفشل على المستوى المحلي والقاري؟

يؤكد تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، تحت عنوان "الحلم الألماني بأن يصبح قوة عالمية في مجال الرقائق يتلاشى بسرعة"، أن خطة المستشار أولاف شولتز لإعادة صياغة أكبر اقتصاد في أوروبا من خلال دعم صناعة أشباه الموصلات فشلت بعد تعثر مشروع إنتل الكبير".

وأوضح التقرير أنه بعد أقل من شهر على افتتاح المستشار مصنع كبير لشركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية (TSMC) في موقع خارج درسدن، تعرض هذا الحماس لضربة قاصمة عندما تعثر مشروع آخر أكبر لشركة إنتل المنافسة لإنتاج بعض أحدث الرقائق الدقيقة في أوروبا، حيث جاء هذا القرار بوقف استثمار يزيد عن 30 مليار يورو (32 مليار دولار) في ماغديبورغ، بعد ما وصفه المسؤولون بأنه تأكيدات متكررة من جانب الشركة على نيتها في المضي قدماً.

 وأضاف التقرير: "يبدو الآن أن طموح تحويل ألمانيا إلى قوة عظمى في مجال أشباه الموصلات، والذي وصفه المقربون بأنه مدفوع شخصياً من قبل شولتز، بات عاجزاً على نحو متزايد. ويصر مساعدوه على أنه سيواصل العمل، على الرغم من أن إعلان إنتل قد سرق للتو محور سياسته الصناعية الرئيسية".

ومع انهيار الائتلاف الثلاثي، سيواجه المستشار قريباً انتخابات قد يعاقب فيها الناخبون فشله في تأمين أسس متينة للنمو في أكبر اقتصاد في المنطقة. ولا يقل عن ذلك حالة الاضطراب التي تعاني منها استراتيجية أوروبا الأوسع نطاقاً لتوسيع قدرة الرقائق بما يكفي لإعادة تأكيد نفسها كركيزة للرخاء العالمي، بحسب التقرير، الذي أشار إلى أن محاولة ألمانيا لإعادة اختراع نفسها كمركز لأشباه الموصلات هي جزء من سباق عالمي للفوز بالسيطرة على نفط العصر الرقمي، والقوة الدافعة وراء التقنيات المستقبلية مثل الذكاء الاصطناعي.

لماذا تعثرت إنتل

وجدت شركة إنتل نفسها في العام 2024، في مواجهة تحديات غير مسبوقة، حيث فاقمت تراجعها من موقعها الريادي كواحدة من أعمدة صناعة أشباه الموصلات إلى شركة تصارع من أجل الحفاظ على مكان في سوق تتسارع فيه الابتكارات، فبينما كانت الشركة رمزاً للتفوق التكنولوجي لعقود، إلا أن عاماً استثنائياً من الخسائر والتحديات كشف عن قصور في استراتيجياتها لمواكبة التحولات العميقة التي تقودها الثورة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وتفاقمت مشاكل إنتل نتيجة تأخرها في تطوير رقائق متخصصة تلبي احتياجات الذكاء الاصطناعي وتزايد هيمنة منافسين مثل إنفيديا وAMD، الذين نجحوا في السيطرة على الحصة الأكبر من السوق، لم تقتصر الأزمة على التحديات التقنية، بل امتدت إلى مستوى الإدارة، حيث شهدت الشركة تغييرات متكررة في القيادة العليا وضعفاً في استراتيجيات الاستحواذ والاستثمار.

وتراجعت القيمة السوقية للشركة في العام 2024 إلى 87.55 مليار دولار، لتفقد58.67 بالمئة من قيمتها، وذلك بعد نمو بنسبة 94.22 بالمئة في العام 2023، بحسب بيانات companiesmarketcap.

ويهدف الاتحاد الأوروبي إلى رفع حصة السوق في إنتاج أشباه الموصلات العالمية إلى 20 بالمئة بحلول عام 2030 - وهو هدف يبدو بعيد المنال. كان المستوى في عام 2024 8.1 بالمئة فقط، وبدون مزيد من الاستثمارات، سينخفض ​​إلى 5.9 بالمئة بحلول عام 2045، وفقاً لتحليل أجرته المجموعة الصناعية الألمانية Zvei وشركة الاستشارات Strategy&.

الانتكاسة الأسوأ

 ونوه تقرير الوكالة الأميركية بأنه تم الترويج لدفع إنتل لتصنيع بعض رقائقها الأكثر حداثة في ألمانيا في وقت سابق من عام 2024 باعتباره "قفزة كبيرة إلى الأمام لجميع أنحاء أوروبا" من قبل الرئيس التنفيذي السابق بات جيلسينجر. على الرغم من أن المشروع الآن في "وقف مؤقت" لمدة عامين، إلا أن العديد من خبراء الصناعة يعتبرونه مهجوراً بشكل أساسي.

حيث كانت هذه الانتكاسة الأسوأ في سلسلة من الانتكاسات لشولتز. كما تراجعت شركة Wolfspeed Inc. الأميركية لصناعة الرقائق المتعثرة ومورد السيارات الألماني ZF Friedrichshafen AG عن خطط التوسع، ونقلت شركة GlobalFoundries Inc. بعض الإنتاج من درسدن إلى البرتغال.

وعانت دول أوروبية أخرى من انتكاسات أيضاً إذ أجلت إنتل خططًا لمصنع بولندي، كما تم أيضاً تعليق مشروع مشترك بقيمة 7.5 مليار يورو لشركة تصنيع الرقائق للسيارات ST Microelectronics و GlobalFoundries في بلدة Crolles الفرنسية، ولكن لم يكن هناك رئيس حكومة يراهن على الاستثمار كثيراً كما هو الحال في ألمانيا، حيث دافع شولتز عن الرقائق الدقيقة ودفعاً لجذب إنتل بمبلغ 10 مليارات يورو من أموال دافعي الضرائب.

ووفقاً لبيان صادر عن شركة إنتل، فإن قرارات الشركة بشأن بولندا وألمانيا "استندت إلى الطلب المتوقع في السوق، سنقوم بتقييم هذه الفرصة في نهاية فترة التوقف التي تستمر لعامين. إذا عاد الطلب في السوق إلى المستويات المتوقعة، فستكون الفرصة لنا لتلبية هذا الطلب محلياً في أوروبا".

هل نجحت ألمانيا بالفعل في تحقيق طموحها؟

في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية أشار الخبير الاقتصادي، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية هاشم عقل، إلى أن نموذج وادي السيليكون يؤكد أن العلم هو الأساس لتحقيق الثروة، حيث أن الاستثمار في المعرفة يقود إلى المال، وأوضح أن منطقة راين-ماين-نيكار، المعروفة بوادي السيليكون في ألمانيا، واحدة من أبرز مراكز التكنولوجيا الفائقة عالمياً. ومع ذلك، ورغم تركّز عدد كبير من شركات "اليونيكورن" في ألمانيا، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نجحت ألمانيا بالفعل في تحقيق طموحها لتكون رائدة في هذا المجال؟

وأضاف عقل أن ألمانيا تمتلك المواهب والمال والنظام البيئي اللازم، لكنها ما زالت متأخرة مقارنة بالولايات المتحدة والصين. وأوضح أن المشكلات الأساسية التي تواجهها ألمانيا تعود إلى ارتفاع تكلفة الطاقة واليد العاملة، إلى جانب سياسات الضرائب، مما يشكل تحدياً أمام تحويل البلاد إلى مركز تكنولوجي منافس لوادي السيليكون.

وأشار إلى أن الاتحاد الأوروبي يعاني من لوائح مجزأة وعقبات تتعلق بالعملات واللغات المختلفة، مما يجعل من الصعب توسيع نطاق الأعمال وإنشاء شركات "اليونيكورن". وأكد على الحاجة إلى تغيير العقلية الأوروبية لدعم الابتكار التكنولوجي الناشئ والشركات الناشئة، محذراً من أن الفشل في ذلك قد يؤدي إلى تراجع أوروبا في صناعاتها التقليدية، مثل قطاع السيارات.

ارتفاع تكلفة الطاقة أبرز التحديات  

وشدد عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية على أهمية تحقيق الاستقلالية في إنتاج الرقائق وتخفيف قواعد المساعدات الحكومية وضخ استثمارات كبيرة لدعم شركات التكنولوجيا. وأوضح أن الولايات المتحدة تقدم حوافز مالية كبيرة لجذب شركات تصنيع الرقائق، مما يضع أوروبا وألمانيا في موقف تنافسي صعب.

وختم الخبير الاقتصادي عقل بالإشارة إلى أن البنية التحتية الرقمية الضعيفة ونقص الكفاءات في مجال تكنولوجيا المعلومات يمثلان تحديات إضافية تواجه ألمانيا. وأضاف أن ارتفاع تكاليف الطاقة والبناء يزيد من صعوبة المنافسة على المستوى العالمي، متسائلاً عما إذا كانت ألمانيا قادرة على مواجهة العمالقة مثل الولايات المتحدة والصين وتايوان في صناعة الرقائق.

من جهته، أوضح طارق الرفاعي، الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن التحديات التي تواجه ألمانيا في سعيها للتحول إلى وادي السيليكون ليست فقط بسبب فشل مشروع إنتل. وأشار إلى أن هذا الفشل يعود بشكل رئيسي إلى المشكلات الداخلية والإدارية التي تعاني منها شركة إنتل، مما أدى إلى إعادة هيكلة الشركة وإلغاء بعض المشاريع، بما في ذلك مشروعها في ألمانيا.

وأضاف الرفاعي أن الحكومة الألمانية تواجه تحديات متعددة، أبرزها ارتفاع تكلفة الطاقة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. وأدى هذا الارتفاع إلى تزايد التضخم، مما دفع العديد من الشركات الصناعية إلى الانتقال إلى دول أخرى، مثل الصين ودول أوروبا. ومن بين هذه الشركات، "بي إيه إس إف"، إحدى كبرى شركات الكيماويات الألمانية، التي افتتحت مصنعاً جديداً في الصين. حتى شركات صناعة السيارات في ألمانيا تعاني من صعوبات كبيرة وإغلاقات بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة.

وأشار الرئيس التنفيذي لمركز "كروم للدراسات الاستراتيجية" إلى أن تكلفة الطاقة تعد واحدة من أبرز التحديات التي تواجه ألمانيا في محاولتها التحول إلى مركز تكنولوجي ينافس وادي السيليكون. وقال: "ورغم أن ألمانيا تُعتبر مركز التكنولوجيا في أوروبا، إلا أنها تواجه عقبات أخرى مثل ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة والسياسات الحكومية لجهة زيادة الضرائب وغيرها، مما يعقد من تحقيق طموحاتها في مجال التكنولوجيا".

كل هذه العوامل تشكل عقبات أمام ألمانيا للوصول إلى هدفها بأن تصبح مركزًا رائدًا في التكنولوجيا والرقائق الإلكترونية، طبقاً لما قاله الرفاعي.