في ظل تفاقم التحديات الاقتصادية والسياسية، تتجه الأنظار إلى فرنسا وسط تساؤلات حول ما إذا كانت تواجه مساراً قد يفضي إلى أزمة ديون مشابهة لما حدث في اليونان.

بحسب تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، اطلع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عليه، تجاوزت تكاليف الاقتراض في فرنسا نظيراتها في اليونان، في ظل قلق المستثمرين بشأن قدرة الحكومة الفرنسية على تمرير ميزانية تهدف إلى خفض العجز .

وقالت المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية مود بريغون إن فرنسا تواجه "سيناريو يوناني محتمل". وشبه وزير المالية أنطوان أرماند باريس بـ "طائرة ركاب تحلق على ارتفاع عال معرضة لخطر التعطل".. فهل تواجه فرنسا حقا أزمة ديون على غرار الأزمة اليونانية؟

تقرير الصحيفة البريطانية نقل عن أستاذ الاقتصاد في معهد العلوم السياسية بباريس، إريك هاير، قوله: "في الوقت الحالي، هذا مجرد مبالغة كاملة".

  • تتمتع فرنسا بإمكانية الوصول الكامل إلى أسواق الدين. فقد جمعت 8.3 مليار يورو يوم الاثنين.
  • يبلغ العائد على ديون الحكومة الفرنسية لأجل عشر سنوات نحو 3 بالمئة. وفي ذروة أزمة الديون، ارتفع العائد على الديون اليونانية إلى أكثر من 16 بالمئة.
  • كان الاقتصاد اليوناني قد انهار، وتفاقمت حالته بسبب تدابير التقشف العقابية، وانخرطت أثينا في معركة مريرة مع برلين وبروكسل بشأن شروط خطة إنقاذ منطقة اليورو.

وبحسب هاير، فإن الفارق بين ديون فرنسا والديون الألمانية اتسع بنحو 0.3 نقطة مئوية فقط خلال الاضطرابات السياسية الأخيرة في فرنسا.

  • لكن المستثمرين يشعرون بالانزعاج من مزيج من الشلل السياسي وأوضاع المالية العامة المتدهورة.
  • من المرجح أن يصل العجز العام إلى 6.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
  • تتعرض باريس لضغوط من الأسواق والاتحاد الأوروبي لاتخاذ إجراءات تصحيحية.

ورغم أن فرنسا لم تدير ميزانية متوازنة منذ خمسة عقود، فإنها وصلت إلى نقطة لم يعد بإمكانها الاعتماد فيها على النمو الاقتصادي للحفاظ على ديونها مستدامة، حسبما أشار مجلس التحليل الاقتصادي في البلاد في وقت سابق من هذا العام.

أزمة الميزانية

وتواجه فرنسا أزمة في إقرار الميزانية. ووفق مدير مرصد الرأي في مؤسسة جان جوريس للأبحاث، أنطوان بريستيل، فإن السبب في صعوبة تمرير الميزانية بالبلاد يعود إلى عاملين:

  • أولا: لا تتمتع الحكومة بأغلبية مطلقة، وهذا يعني أن أي نص يتطلب التفاوض مع حزب التجمع الوطني أو كتلة الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية.
  • ثانياً: تعني المالية العامة الضيقة أن رئيس الحكومة ميشيل بارنييه يتخذ خيارات صعبة وغير شعبية لتحقيق هدفه المتمثل في خفض العجز من 6 إلى 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024.

وفي ظل وجود هامش ضيق للمناورة، قال بارنييه إنه من المرجح أن يضطر إلى استخدام إجراء دستوري يعرف باسم 49.3، والذي يمكن الحكومة من تمرير التشريعات دون تصويت برلماني، ولكنه يعرضها أيضا لمقترح بحجب الثقة.

وضع مختلف

من باريس، يقول الكاتب والمحلل عبد الغني العيادي في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":

  • لا أعتقد بأن فرنسا تتجه نحو أزمة ديون على النمط اليوناني؛ لا سيما وأن الوضع مختلف تماماً من حيث المعطيات الاقتصادية والسياسية.
  • الدين العام الفرنسي يبلغ نحو 110 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مرتفع لكنه يظل أقل بكثير من مستوى ديون اليونان خلال أزمتها، التي تجاوزت 180 بالمئة.
  • العجز المستهدف في الميزانية الفرنسية عند 4.9 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي يثير القلق، لكنه بعيد عن العجز الذي بلغ 15.4 بالمئة في اليونان قبل الأزمة.
  • كما أن فرنسا قادرة على الاقتراض بمعدلات فائدة تتراوح بين 3-4 بالمئة، مقارنة بمعدلات تجاوزت 10 بالمئة في اليونان، مما يضمن استمرارها في الوصول إلى أسواق الدين العالمية.

ويضيف: بفضل اقتصادها القوي (..) وموقعها كمحرك رئيسي في الاتحاد الأوروبي، تتمتع فرنسا بثقل سياسي واقتصادي كبير يساعدها على تجنب السيناريوهات الحادة. ومع ذلك، فإن استمرار العجز وارتفاع تكاليف خدمة الدين يجعلان الإصلاحات المالية، خاصة في نظام التقاعد والإنفاق العام، ضرورة لا يمكن تأجيلها.

ويختتم حديثه بالإشارة إلى أن فرنسا ليست في خطر فوري، لكنها تحتاج إلى تحرك سريع لضمان استدامة ديونها وتجنب أزمات مستقبلية قد تؤثر على دورها القيادي في أوروبا.

 فرنسا ليست اليونان

وبحسب تقرير لمجلة "ذا سبيكتاتور" البريطانية، فإن

  • أسواق السندات قررت أن الديون الفرنسية تشكل رهاناً أكثر خطورة من اليونان، وهي الدولة التي كادت قبل خمسة عشر عاما أن تدمر منطقة اليورو بأكملها بسبب إسرافها المالي وعدم مسؤوليتها.
  • صحيح أن هذا يعكس إلى حد ما تحسناً في موقف اليونان، فضلاً عن تراجع موقف فرنسا. ولكن الواقع القاسي هو أن فرنسا في حالة يرثى لها، وسوف يكافح الرئيس إيمانويل ماكرون لإصلاح الأمور.
  • كان من المحتم أن تحدث هذه اللحظة الحرجة في نهاية المطاف. فمنذ أن دفع ماكرون النظام السياسي الفرنسي إلى الفوضى في الربيع من خلال الانتخابات المبكرة التي لم تسفر عن نتائج جيدة لحزبه الحاكم، كانت أسواق السندات تطالب بأسعار أعلى وأعلى للاحتفاظ بالديون الفرنسية. وكما اكتشفت ليز تروس خلال فترة ولايتها القصيرة في رئاسة الوزراء، فإن أسواق السندات لا تحب حالة عدم اليقين.

وكان وزير الاقتصاد في فرنسا، أنطوان أرماند، قد ذكر في تصريحات لقناة بي إف إم التلفزيونية الفرنسية، أن: "فرنسا ليست اليونان.. فرنسا لديها اقتصاد وفرص عمل ونشاط اقتصادي وجاذبية، وقوة اقتصادية وديموغرافية متفوقة بكثير، وهذا يعني أننا لسنا مثل اليونان".

لكن بحسب تقرير المجلة البريطانية، فإن تصريحات الوزير الفرنسي ليست مطمئنة على الإطلاق، بالنظر إلى مستوى العجز المالي في البلاد (..).

ويضيف التقرير:

  • لا يتحمل ماكرون اللوم بالكامل عن هذا الوضع المؤسف.
  • السياسة الفرنسية تهيمن عليها أحزاب من اليسار واليمين لا تريد سوى زيادة الإنفاق أكثر فأكثر.
  • إذا لم تتمكن حكومة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه من تمرير الميزانية خلال الأيام القليلة المقبلة، وقد لا تتمكن من ذلك، فقد تبدأ أسعار السندات في الخروج عن نطاق السيطرة.
  • لكن حتى لو نجح بارنييه في إيجاد حل، فإن المشكلة الأكبر تظل قائمة؛ فالإفراط في الإنفاق الفرنسي بنيوي.
  • تتحمل فرنسا التزامات ضخمة ومكلفة في مجال الرعاية الاجتماعية يصعب تقليصها.

ضغوط

من لندن، يقول الخبير الاقتصادي، الدكتور أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:

  • فرنسا، على غرار المملكة المتحدة، تواجه تحديات كبيرة تتعلق بارتفاع الدين العام والعجز المالي، مما يزيد من الضغوط على الاقتصاد الوطني.
  • الدين الوطني الفرنسي الذي تجاوز الـ 100 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ97 بالمئة في العام 2019، يشكل ارتفاعاً ملحوظاً يعكس التحديات المالية المتزايدة.
  • من أبرز المخاوف الاقتصادية في فرنسا ارتفاع عائدات السندات الحكومية، خاصة بعد أن خفضت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني للديون السيادية الفرنسية إلى "إيه إيه سالب".
  • رغم أن الاقتصاد الفرنسي يمتلك مقومات القوة التي تجنبه مصيراً مشابهاً لما مر به الاقتصاد اليوناني في الماضي، إلا أن السندات الفرنسية، التي كانت تُعتبر يوماً ما ملاذاً استثمارياً قريباً من السندات الألمانية، تواجه اليوم تحديات كبيرة تؤثر على استقرار الاقتصاد.

ويضيف: "إن تصاعد تكاليف خدمة الدين يزيد من الضغوط على معدلات النمو الاقتصادي ويعمق العجز العام.. وفي ظل تضاؤل الاحتياطيات المالية، فإن استمرار هذا الاتجاه قد يدفع وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض تصنيف فرنسا مرة أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى وضع اقتصادي شديد الصعوبة، قد يكون الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية"، على حد وصفه.

ويختم القاسم حديثه بالإشارة إلى أن ثمة حاجة ملحة لإجراءات اقتصادية صارمة وسريعة للسيطرة على الدين العام وتجنب تفاقم الأوضاع المالية في المستقبل القريب.

لماذا ارتفع الاقتراض بشكل حاد؟

بحسب تقرير لصحيفة "الغارديان" فقد ارتفع الاقتراض الفرنسي بشكل حاد بعد أن تسببت جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا في صدمة تضخمية عالمية، حيث تدخلت الحكومة لحماية الأسر والشركات، في حين أدى ضعف النشاط الاقتصادي إلى استنزاف عائدات الضرائب.

لكن المحللين قالوا أيضاً إن التخفيضات الضريبية التي أطلقها الرئيس ماكرون في إطار أجندته الإصلاحية لضخ المزيد من ديناميكية السوق الحرة في الاقتصاد الفرنسي قوضت استقرار المالية العامة.

ونقل تقرير الصحيفة عن الخبير الاقتصادي البارز في شركة الاستشارات أكسفورد إيكونوميكس، ليو بارينكو، قوله: "السبب الرئيسي للوضع المالي الهش الحالي يتعلق  بالتخفيضات الضريبية غير الممولة في عهد ماكرون".

تم خفض المعدل الرئيسي لضريبة الشركات من 33 إلى 25 بالمئة، في حين تم استبدال "ضريبة التضامن" على الثروة ، والتي تفرض على الأصول التي تزيد عن 1.31 مليون يورو، بضريبة أقل بكثير تبلغ 30 بالمئة على مكاسب رأس المال من الفوائد والأرباح.

ولكن الضرائب كنسبة من الدخل الوطني ــ على الرغم من انخفاضها في السنوات الأخيرة ــ تظل عند أعلى مستوى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما بلغ الإنفاق أعلى مستوى في مجموعة الدول الثماني والثلاثين الغنية.

وقال أندرو كينينجهام، كبير خبراء الاقتصاد الأوروبي في شركة الأبحاث كابيتال إيكونوميكس، إن فرنسا تواجه مشاكل طويلة الأجل، بما في ذلك الإنفاق على المعاشات التقاعدية بنسبة 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، و"ثقافة سياسية تجعل خفض الإنفاق أمرا صعبا".

وضع مثير للقلق

من جانبه، يقول أستاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن فرنسا، رغم ارتفاع دينها العامة إلى مستويات غير مسبوقة، لا تواجه حالياً خطر أزمة ديون مماثلة لتجربة اليونان.

ومع ذلك، أشار إلى أن الوضع المالي الفرنسي يثير القلق بسبب البيئة الاقتصادية العالمية المعقدة والصدمات المتكررة، مبرزاًمجموعة من النقاط  الأساسية على النحو التالي:

  • الدين العام الفرنسي تجاوز 3 تريليونات يورو في العام 2024، وهو ما يمثل أكثر من 110 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
  • رغم هذا الارتفاع، فإن تصنيف فرنسا كدولة ذات اقتصاد متقدم يمنحها مرونة في الاقتراض مقارنة بالدول ذات الاقتصادات الناشئة.
  • فرنسا لا تزال تحظى بتصنيف ائتماني قوي نسبياً، مما يتيح لها الاقتراض بأسعار فائدة معقولة، بخلاف اليونان خلال ذروة أزمتها.
  • الاقتصاد الفرنسي متنوع وأكبر حجماً بشكل كبير مقارنة بالاقتصاد اليوناني، مما يخفف من حدة الأزمات المالية.
  • كعضو رئيسي في منطقة اليورو، تحظى فرنسا بدعم سياسي واقتصادي مباشر من الاتحاد الأوروبي، وهو عامل استقرار كبير.

ويلفت في الوقت نفسه إلى مجموعة من التحديات التي تواجه الاقتصاد الفرنسي، بما في ذلك تضخم الإنفاق العام، لجهة أن الإنفاق المرتفع على الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة يشكل عبئًا على الميزانية، كما أن معدل النمو المتواضع يعيق جهود فرنسا لتقليص نسب الدين مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي. 

وفيما يؤكد الإدريسي أن باريس ليست في وضع مالي مريح تماماً، لكن يشير إلى أنها تمتلك الأدوات والمرونة الاقتصادية لتفادي أزمات كبرى، مشددًا على أهمية اتخاذ خطوات إصلاحية جادة لضمان الاستقرار المالي في المدى الطويل.