وجه الأميركيون رسالة واضحة إلى الحزب الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع الثلاثاء الماضي، تظهر استيائهم من الوضع الاقتصادي الحالي، بما يتجاوز الشكوى المباشرة من التضخم، وهو ما دفع قادة الحزب إلى البحث عن استراتيجيات جديدة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية التي تسببت في خسارتهم لأصوات الطبقة العاملة، وفق صحيفة "واشنطن بوست".

وأشارت الصحيفة إلى أن التحول الحاسم للبلاد نحو الرئيس المُنتخَب دونالد ترمب لا يعكس عدم الرضا عن الارتفاع الأخير في الأسعار فحسب، بل يعكس أيضاً مخاوف أعمق لدى الناخبين بشأن التراجع المحتمل لأمنهم المالي، موضحة أن الأميركيين باتوا يدخرون أموالاً أقل مما كان الوضع عليه قبل وباء كورونا، كما يتأخرون بشكل متزايد في سداد قروض السيارات، وبطاقات الائتمان، وذلك بمعدلات لم تشهدها البلاد منذ أزمة الكساد العظيم.

ووفقاً لاستطلاع أجرته وكالة "أسوشييتد برس"، فإن ثلاثة من كل 10 ناخبين يقولوا إنهم يتخلفون عن السداد، وذلك بزيادة قدرها 50% عن عام 2020، فيما يقول 8 من كل 10 إنهم يأملون في "تغيير كبير وشامل" في طريقة إدارة البلاد.

ودفع الانقسام المتزايد الذي ظهر في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، قادة الحزب الديمقراطي إلى مراجعة أنفسهم، إذ أنه في غضون أيام من تلقيهم خسارة موجعة، ألقت عدة فصائل مختلفة بالحزب اللوم على منافسيها داخل الحزب بسبب النتائج، وقدمت مجموعة من التفسيرات المتضاربة لتراجع التقييمات الاقتصادية للحزب بين الناخبين، بحسب الصحيفة.

وفي مواجهة خسارة البيت الأبيض والسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ، بات الديمقراطيون يدفعون برؤى مختلفة، وربما غير متوافقة، لعكس خسارتهم الانتخابية الأسوأ منذ عقدين على الأقل.

وقال بيل جالستون، المساعد البارز للشؤون السياسية في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون (1993 - 2001)، إن "إصرار العديد من المتحدثين الاقتصاديين الديمقراطيين على التضخم لم يكن مفيداً، لقد اعتقدت دائماً أن بايدن كان ليكون في وضع أفضل لو اعترف مبكراً وبصراحة أنهم أخطأوا".

ومنذ الثلاثاء، أعادت بعض الأصوات الوسطية في الحزب إحياء انتقاداتها لخطة تحفيز الاقتصاد التي قدمها الرئيس جو بايدن في عام 2021، مشيرين إلى أنها فاقمت معدلات التضخم المرتفعة وأضرت بنائبة الرئيس كامالا هاريس حتى بعد انسحاب بايدن من السباق.

أما على الجانب اليساري، فقد انتقد المشرعون والاستراتيجيون الرئيس الأميركي لعدم تسليط الضوء بشكل أكبر على جشع الشركات في رفع الأسعار، وهاريس لـ"تحركها بعيداً عن الشعبوية الاقتصادية واحتضانها للأثرياء أمثال مارك كيوبان"، فيما انتقد بعض المشرعين التقدميين مثل السيناتور المستقل بيرني ساندرز الديمقراطيين لعدم تركيزهم بشكل أكبر على الرسائل الشعبوية الاقتصادية، مثل توسيع مزايا برنامج الرعاية الطبية ورفع الحد الأدنى للأجور.

ومع أن حملة هاريس كانت قد اقترحت بعض الخطط السياسية الجريئة، لكن المنتقدين الليبراليين قالوا إن هذه السياسات كانت "غير كافية".

استياء في معسكر هاريس

وفي المقابل، أعرب مسؤولون في البيت الأبيض وحملة نائبة الرئيس عن استيائهم من الانتقادات الموجهة إلى سياساتهم.

ونقلت الصحيفة عن جاريد بيرنشتاين، وهو رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض قوله: "لقد حرصنا دائماً على الاعتراف بالمعاناة العميقة التي تواجهها الأسر مع ارتفاع الأسعار، ولا أعتقد أنه يمكن العثور على تصريح رئاسي واحد يتجاهل هذه الحقيقة"، وأضاف: "صحيح أننا لم نكن مثاليين، لكنني متأكد أيضاً أنه لا توجد مجموعة من الكلمات السحرية التي لو كنا قد قلناها، لكانت النتيجة مختلفة الآن".

ورغم أن العديد من جوانب الاقتصاد تبدو قوية على الورق، وذلك بالنظر إلى وجود وفرة في الوظائف، وزيادة في الأجور وانخفاض في معدلات التضخم، فإن الارتفاع السريع في الأسعار دفع تكاليف الإسكان والمواد الغذائية والبنزين إلى الارتفاع بأكثر من 20% خلال 4 سنوات، وهي التكاليف التي لم تؤد إلى إجهاد ميزانيات الأميركيين فحسب، بل غيَرت أيضاً وجهات نظرهم بشأن الاستقرار المادي على المدى الطويل، إذ يظل مؤشر ثقة المستهلكين، وهو مقياس لشعور الأميركيين تجاه الاقتصاد وكذلك الآفاق المستقبلية للبلاد، دون مستويات ما قبل الوباء.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو 70% من الناخبين يعتبرون الاقتصاد "سيئاً" أو "غير جيد"، مما خلق عائقاً واضحاً أمام هاريس، كما أنه من بين الناخبين الذين قيموا الاقتصاد بشكل سلبي، صوتت الأغلبية (68%) لصالح ترمب.

وأثناء ترشحها للرئاسة، اتخذت هاريس خطوات أكثر من بايدن للاعتراف بإحباطات الناخبين وتعهدت بتبني إصلاحات واسعة النطاق، لكن رسالتها الاقتصادية كانت تحتوي على تناقضات أخرى، ففي حين تبنت الخطاب الشعبوي بشأن ممارسة الاحتكار من قبل الشركات والمليارديرات، إلا أن نائبة الرئيس حاولت في الوقت نفسه تصوير نفسها على أنها معتدلة ومؤيدة للأعمال التجارية مع تبني لمسة تنظيمية أخف من الرئيس.

موجة تصويت عالمية ضد الزعماء الحاليين

ومع ذلك، يقول آخرون إنه لم يكن هناك الكثير مما كان يمكن لبايدن أو هاريس فعله لتغيير آراء الأميركيين بشأن الاقتصاد، إذ أن زعماء عالميين آخرين، أخرجوا من مناصبهم عبر الانتخابات، بما في ذلك في بريطانيا واليابان ونيوزيلندا، هذا العام، بسبب شعور الناخبين بالاستياء المرتبط بارتفاع معدلات التضخم.

ورغم أن الولايات المتحدة تجنبت الركود الذي كان يخشاه الجميع، فإن الكثيرين يقولون إنهم باتوا يشعرون بالإحباط لأن بعض الخطوات مثل شراء منزل أو إنجاب طفل باتت تبدو بعيدة المنال.

ويقول جيفري سونينفيلد، وهو أستاذ في جامعة "ييل" الأميركية، إنه تبادل عشرات الرسائل الإلكترونية مع مسؤولي إدارة بايدن وهاريس لحثهم على "التوقف عن الاستسلام لدعاية ترمب بشأن الاقتصاد"، مشيراً إلى أن مسؤولي حملة هاريس الانتخابية قالوا إن الجمهور لا يستطيع فهم الحقيقة وأنهم لا يستطيعون شرحها لهم أيضاً".

ورأى سونينفيلد أن حملات الديمقراطيين كانت مخطئة لأنها "لم تعرض أبداً النمط الاستثنائي ربما لأقوى اقتصاد في التاريخ الأميركي".

ووفقاً لـ "واشنطن بوست"، فإن البعض يقول الآن إن البيت الأبيض بالغ في التأكيد على البيانات الاقتصادية الإيجابية، إذ ظل يكافح باستمرار لإرسال الأخبار الجيدة وسط أسوأ تضخم شهدته أجيال، مع طرح كبار المسؤولين لاستراتيجيات مختلفة. 

وذكرت الصحيفة، وفقاً لما نقلته عن مصدرين مطلعين، تحدثا شريطة عدم الكشف عن هوياتهما، أن كبير موظفي البيت الأبيض السابق رون كلاين كان يريد من بايدن أن يعترف علناً بهذه الصعوبات من خلال التصريح بأن رفع معدلات الفائدة يضر بالجمهور.

ولكن اقتراحه قوبل بالرفض، إذ كان مسؤولو الإدارة يترددون في توجيه انتقادات لبنك الاحتياطي الفيدرالي، حتى لو كانت ضمنية، مفضلين الالتزام بالمبدأ الراسخ المتمثل في استقلالية البنك المركزي.

وأعرب بيرنشتاين، المستشار الاقتصادي السابق لدى البيت الأبيض، عن ثقته في أن السجل الاقتصادي لبايدن سيبدو أفضل بمرور الوقت، قائلاً: "من الواضح، كما رأينا في الانتخابات في مختلف أنحاء العالم، أن التضخم كان له تأثير كبير على النتيجة، لكن أي تحليل يقلل من التأثير الدائم لاستثمارات الرئيس في المجتمعات المختلفة، وعلى اقتصادنا الأوسع، سيكون ناقصاً بشكل مؤسف".