قبل أكثر من 3 أعوام تقريبا، شهدت تقنيات الذكاء الاصطناعي تطورا هائلا لتخطو أولى خطواتها نحو أهم ثورة صناعية، وتحوّلا في انتظار البشرية، وفق ما يقول الخبراء الذين يشبّهون ما يحدث بـ"اكتشاف الإنسان للنار" قبل آلاف القرون.
لكن، هذا التحول الكبير الذي سيفتح فرصا هائلة للبشرية جمعاء، يتزامن معه مخاطر متزايدة تتراوح من عدم الحفاظ على حقوق الملكية، وصولا إلى الاحتيال، وذلك بالنظر إلى عدم وجود تشريعات واضحة تُخضع الذكاء الاصطناعي للتنظيم، مع إتاحتها لمستخدمي الإنترنت كافة.
الموسيقى في خطر
ومن بين المخاطر التي تزايدت خلال الأشهر الماضية، مع إتاحة تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل مفتوح، استخدام تقنية "Deepfake" أو التزييف العميق، سواء على مستوى مقاطع الفيديو أو الأصوات، غير أنّ التقنيات المتعلقة بإنتاج الأصوات، كانت الأكثر تطورا، للدرجة التي أدت إلى وجود صعوبات كبيرة في التفرقة بين الصوت الحقيقي والمنتَج باستخدام الذكاء الاصطناعي، ليتحول الأمر بشكل واسع إلى استخدامات لإنتاج مقاطع غنائية وموسيقية.
ومنذ بداية عام 2023، انتشرت مقاطع صوتية وموسيقية عدة لمطربين وشخصيات معروفة في مختلف أنحاء العالم على منصات التواصل الاجتماعي، تم إنتاجها عن طريق تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي كان من أشهرها استخدام صوت الفنان الأميركي الراحل فرانك سيناترا في نسخة من أغنية "Gangsta’s Paradise" ونشر المقطع على "يوتيوب".
ويتم إنتاج الأصوات باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، عبر تعليم التكنولوجيا الخوارزمية من خلال إضافة مقاطع صوتية حقيقية للأشخاص، بحيث تقوم بتحليلها وإنشاء تأثيرات صوتية واقعية تحاكي الصوت المراد استنساخه.
وأعرب بعض صنّاع الموسيقى في العالم، عن مخاوفهم مع تطور هذه التقنيات وما ستشكّله من تحدّ في المستقبل على الشركات والصناعة ككل، لكن رغم ذلك هناك من يرى أنّ الذكاء الاصطناعي سيساعد في تطور صناعة الموسيقى خلال الفترة المقبلة، ومن بينهم المعلق الصوتي والمنتج الموسيقي أحمد حفار، والموزع الموسيقى طارق مجدلاني، اللذان تحدثا مع منصة وقناة "" في وقت سابق من هذا العام، في وثائقي قصير بعنوان "ثورة الذكاء الاصطناعي تهدد صنّاع الموسيقى".
وخلال الأشهر الأخيرة، دخلت شركة "غوغل" في مناقشات مع عملاق إنتاج الموسيقى "يونيفرسال ميوزيك"، لترخيص ألحان وأصوات المطربين للأغاني التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، في محاولة منها لتحقيق الدخل من أحد أكبر التهديدات التي تواجهها، وفق ما نقلت صحيفة فاينانشال تايمز في وقت سابق.
ويعتبر الباحث التقني الكويتي محمد الرشيدي هذه الخطوة، بأنها ستساعد شركات إنتاج الموسيقى التي لديها حقوق ملكية بشكل مؤقت خلال الفترة الحالية، لتعزيز إيراداتها المالية وتحقيق المزيد من الأرباح، غير أنها لن تساعدهم في المستقبل، لأنّ هذه التقنيات تتطور بشكل سريع و"مخيف".
لقد أصبح العالم مقبلا على عصر موسيقى الذكاء الاصطناعي والمطربين الافتراضيين، حسبما يضيف الرشيدي، مشيرا إلى أنّ "عناصر صناعة الموسيقى في خطر".
على النقيض، يؤكد الخبير التقني عمر قصقص خلال حديثه مع منصة "المشهد"، أنّ ما تقوم به شركات صناعة الموسيقى، خطوة إيجابية لحفظ حقوقها وحقوق المطربين في الوقت الحالي والمستقبل أيضا، و"هذا يساعد على المزيد من الإيرادات، إذ لا يمكن ترخيص استخدام الأصوات والموسيقى من دون حفظ حقوق الملكية الفكرية".
وبحسب تقرير "فاينانشال تايمز"، أدى ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، إلى زيادة في الأغاني "المزيّفة العميقة"، التي يمكن أن تحاكي بشكل مقنع ألحان وأصوات فنانين معروفين من دون موافقتهم.
والشهر الماضي قال المستشار العام لشركة "يونيفرسال ميوزيك" جيفري هارلستون للمشرعين الأميركيين: "صوت الفنان هو الجزء الأكثر قيمة في معيشته وشخصيته العامة، ومن الخطأ سرقته، بغضّ النظر عن الوسائل".
إساءة الاستخدام
ولم يتوقف الأمر بشأن تسارع تقنيات الذكاء الاصطناعي فقط عند تزييف أصوات الفنانين، وتأثيره على كبار صنّاع الموسيقى الذين يسعون لإطلاق منتجات مع "غوغل" لحفظ حقوقهم، بل امتد ليشمل الجميع، حيث باتت تقنيات التزييف العميق، تشكل تهديدا على المجتمع مع تزايد عمليات الاحتيال والابتزاز بمختلف أنواعه.
ويستعين المحتالون بتقنيات الذكاء الاصطناعي، لإنشاء الأصوات لخداع بعض أفراد الأسرة والأصدقاء المعنيين لشخص محدد، ومناشداتهم الحصول على مساعدات أو تحويلات مالية، بحسب ما تقول شركة الأمن والمعلومات والسيبراني "مكافي"، والتي أجرت استطلاع رأي أظهر أنّ 77% من الأشخاص المشاركين، تعرّضوا لعمليات احتيال مادي بفعل التزييف العميق للصوت.
وادعت دراسة جديدة أجراها باحثون في جامعة كوليدج لندن، ونقلتها شبكة "فوكس نيوز" الأميركية، أنّ الأصوات التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي وتحاكي الصوت البشري، يمكن أن تكون مقنعة للغاية، بحيث لا يستطيع الناس التفرقة حتى إذا كانوا مدرّبين على تحديد الأصوات المزيفة.
وتؤكد دراسات مختلفة، أنه لا يمكن للبشر اكتشاف التزييف العميق للصوت بشكل موثوق، بحسب ما يشير الخبير التقني عمر قصقص، والذي يقول لـ"المشهد": "البشر يصعب عليهم التمييز بين الأصوات الحقيقية والمزيفة، وهذا أمر خطير، إذ يمكن استخدامها في أعمال عدة تخالف القوانين".
ويضيف قصقص: "تسارع تطور هذه التقنيات يؤثر بشكل سلبي على المجتمع، سواء من خلال نشر المعلومات غير الدقيقة، أو تنفيذ عمليات احتيال مادي على الأفراد والشركات".
بدوره، يشير الباحث التقني محمد الرشيدي، إلى أنّ التكنولوجيا ستصبح أكثر إقناعا مع التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، معتبرا أنّ ما يحدث "بات يشكل خطرا على المجتمع، وسيؤدي إلى فوضى عارمة، ما يستدعي أهمية توحيد الجهود العالمية لتنظيم استخدام هذه التقنيات".
استراتيجيات وتشريعات
ووفق استطلاع شركة "مكافي" والذي شمل 7000 شخص حول العالم، فإنّ واحدا من بين 4 أشخاص أكد تعرّضه لعملية احتيال باستخدام تقنيات التزييف العميق للصوت، أو يعرف شخصا قام بذلك.
ويطالب الخبراء التقنيون وأصحاب المصلحة في العالم، من الحكومات، تسريع وتيرة إصدار تشريعات تنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما يحمي حقوق الملكية وحماية الأشخاص من إساءة الاستخدام، إذ يقول أستاذ علوم الكمبيوتر بجامعة كوليدج لندن لويس دي غريفين، في بيان نشرته الجامعة عقب إصدار الدراسة: "مع زيادة تطور تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدية، وإتاحة العديد من هذه الأدوات بشكل مفتوح، نحن على وشك رؤية العديد من الفوائد والمخاطر. وسيكون من الحكمة أن تضع الحكومات والمنظمات، استراتيجيات للتعامل مع إساءة استخدام هذه الأدوات".
ويؤكد أهمية هذه الخطوة الباحث محمد الرشيدي، إذ يقول لـ"المشهد" إنّ "وجود تشريعات واضحة تنظّم عملية الترخيص لاستخدام هذه التقنيات، ضرورة لا غنًى عنها، إلى جانب إعداد ميثاق شرف واضح بشأن استخدامها في المجالات كافة".
من جهته يقول عمر قصقص: "أعتقد أنه يجب أن يكون هناك قوانين منظّمة تحمي الأشخاص من التزييف العميق. لا بد وأن يكون هناك طرق لتطوير واكتشاف وحماية الأشخاص من الأغراض الخبيثة والابتزاز بأنواعه كافة".
وسعت المنظمة العالمية للملكية الفكرية "ويبو"، وفق موقعها الإلكتروني، منذ أعوام قليلة، إلى توفير منصّة لأصحاب المصلحة، من خلال منتدى دوري لفهم قضايا الملكية الفكرية المتعلقة بتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد والمجتمع، لكن لم يتم اختراق هذا الملف بشكل كبير ،واتخاذ خطوات واضحة، سوى ما يقوم به الاتحاد الأوروبي حاليا من مشروع قانون ينظم قواعد تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية.
(المشهد)