لم تخرج كوريا الجنوبية بعد من تداعيات إعلان الرئيس يون سوك يول، فرض الأحكام العُرفية مطلع ديسمبر، ما أدى إلى دخول البلاد في حال من الفوضى، على الرغم من أن القرار لم يستمر سوى بضع ساعات، بعدما تمكن المشرعون من الوصول إلى مبنى البرلمان والتصويت على تمرير اقتراح رفع الأحكام العرفية.
وتسود مخاوف من تفاقم حالة الفوضى بعد تمكن قوات الشرطة من القبض على الرئيس يون سيوك يول داخل المقر الرئاسي في سول، بينما كان الآلاف من أنصاره يتجمعون في الخارج، لتكون هذه هي أول مرة يحتجز فيها رئيس حالي من قبل سلطات التحقيق في تاريخ كوريا الجنوبية.
وتعيش البلاد هذه الفوضى وسط مخاوف داخلية من الإجراءات والسياسات، التي يتوقع أن تتخذها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب تجاه الكوريتين، بعد تنصيبه في 20 يناير، والتي من المتوقع أن تنعكس على سول بشكل مباشر، وعلى سياستها تجاه بيونج يانج إضافة إلى بكين.
ورغم أن محاولة يون، الموقوف عن العمل حالياً كرئيس، لفرض الأحكام العرفية كانت قصيرة، إلا أن من المحتمل أن تكون آثارها طويلة الأمد على السياسة والمجتمع في كوريا الجنوبية، إذ أعادت إلى أذهان الكوريين ذكريات الحكم العسكري الذي عاشته البلاد، خلال فترة الحرب الكورية في 1952، قبل أن تنتقل إلى الحُكم الديمقراطي أواخر الثمانينات.
وقال المحاضر في الدراسات الدولية بجامعة يونسي لي جونج هو، لـ"الشرق"، إن "الديمقراطية في كوريا الجنوبية شخصية للغاية وذات أهمية عميقة، إنه إنجاز جماعي ولد من دماء وعرق وتصميم الأجيال التي قاتلت من أجل حقوقها".
تأثر شعبية يون
واعتبر جونج هو أن تصرفات يون "تمثل خيانة لتلك المبادئ، إذ أظهرت استطلاعات الرأي، التي أعقبت محاولة فرض الأحكام العرفية، أن ما لا يقل عن ثلثي المشاركين في الاستطلاع أيدوا عزل الرئيس، مع إظهار بعض الاستطلاعات أعداداً أعلى لصالح العزل".
وشهدت المدن في جميع أنحاء كوريا مسيرات كبيرة مناهضة للرئيس، قابلتها مَسيرات تدعمه وتدعو إلى سجن منافسه زعيم الحزب الديمقراطي الكوري لي جاي ميونج.
وبات ملاحظاً بشكل عام ميل كبار السن إلى تأييد يون، في حين يتخذ غالبية الشباب موقفاً معارضاً للرئيس الموقوف عن العمل، إذ تتوزع قاعدته المؤيدة الرئيسية بين الناخبين الأكبر سناً في جنوب شرق البلاد الذي يُعتبر الأكثر محافظة، في حين أن الجنوب الغربي هو معقل الحزب الديمقراطي الأكثر ليبرالية، إذ يعود هذا إلى سياسات التصنيع في الستينيات والسبعينيات التي فضلت التمركز في الجنوب الشرقي.
استنساخ تجربة ترمب
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة يونسي، ووييل بايك، لـ"الشرق"، إن السياسة في كوريا تزداد استقطاباً، ويتفاقم الأمر بلجوء السياسيين إلى بث مواقفهم عبر موقع الفيديو "يوتيوب".
ولوح أنصار يون بالأعلام الأميركية والكورية، وحملوا لافتات عليها عبارات "أوقفوا السرقة"، وهو الشعار الذي يستخدمه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، إذ جاءت في أعقاب تعليقات الرئيس يون المشككة في عمليات اللجنة الانتخابية الوطنية.
كما شوهد بعض أنصار الرئيس وهم يرتدون خوذات البناء البيضاء، إذ يطلقون على أنفسهم "رابطة الشباب المناهض للشيوعية"، ويرتدون الخوذات في إشارة إلى الخوذات التي ترتديها المجموعات التي قمعت الاحتجاجات السياسية خلال الحكومات العسكرية في الماضي.
وعلى الرغم من التوتر السياسي الكبير المستمر في البلاد، تتخذ الاحتجاجات طابعاً سلمياً حتى الآن، وأحياناً يتخللها تشغيل موسيقى البوب الكورية، وحضور شاحنات الطعام.
هذه الاحتجاجات العارمة، التي يُشارك فيها مئات الآلاف من المُطالِبين بعزل الرئيس، كانت تُعتبر مشهداً نادراً، قبل قراره بفرض الأحكام العُرفية، لكن قبلها كانت الاحتجاجات أصغر، وتحدث في الأساس كل عطلة نهاية أسبوع حول مجموعة متنوعة من الأسباب، وغالباً ما تدعو إلى سجن سياسي أو إطلاق سراح سياسي آخر من السجن.
ما مصير الرئيس؟
في ظل النظام السياسي في كوريا الجنوبية، لا يمكن للرؤساء أن يخدموا سوى ولاية رئاسية واحدة، مدتها 5 سنوات.
وفي الولايات المتحدة أو بريطانيا أو غيرها من دول الغرب، يقوم الرؤساء السابقون، أو رؤساء الحكومات السابقون كذلك، بجولات لتوقيع كُتب أشبه بسير ذاتية، ويشاركون بفعاليات خطابية يلقون فيها كلمات، غالباً ما تكون مدفوعة، وتُشكّل مصدراً للدخل لديهم، أما في كوريا الجنوبية، فغالباً ما ينتهي مصير الرؤساء السابقين إلى السجن.
من بين الرؤساء الأربعة السابقين قبل الرئيس يون (63 عاماً)، دخل السجن اثنان بعد فترة توليهما المنصب (تم العفو عنهما منذ ذلك الحين) وانتحر أحدهم وسط تحقيق بتهم فساد. وبالتالي، ليس من المستبعد أن يواجه الرئيس يون مصيراً مماثلاً.
وتعتبر السياسة في كوريا الجنوبية لعبة عالية المخاطر، إذ يأخذ الفائز كل شيء، وإذا خسر، فإنه يفقد كل شيء.
كيف صعد نجم يون؟
صعد نجم يون عندما كان مدعياً عاماً في النيابة العامة، وتولى التحقيق في قضايا فساد كبيرة أدت إلى الإطاحة بالرئيسة السابقة المعزولة بارك كون-هيه، التي كانت من المحافظين، وهي قضية انتهت بالإطاحة بها من كرسي السُلطة إلى ما وراء القُضبان.
وبعدها أصبح يون ممثلاً لحزب "قوة الشعب اليميني" (PPP)، ورئيساً للبلاد في 2022، بعدما تغلب على مرشح الحزب الديمقراطي اليساري لي جاي ميونج، بأضيق هامش في تاريخ الرئاسة، إذ فاز بنسبة 48.56% من أصوات الناخبين، مقابل 47.83% حصل عليها لي.
ومع ذلك، كان للحزب الديمقراطي أغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية ذات الغرفة الواحدة (البرلمان) في كوريا الجنوبية، واحتفظ الحزب الديمقراطي بهذه الغالبية في الانتخابات العامة عام 2024، وهذا يعني أنه طوال فترة رئاسة يون، لم يكن لحزبه سيطرة على البرلمان.
لماذا أعلن يون الأحكام العرفية؟
كرئيس، استخدم يون حق النقض الرئاسي لمنع العديد من مشاريع القوانين في البرلمان. وفي الوقت نفسه، استخدم الحزب الديمقراطي غالبيته البرلمانية لعزل وزراء يون، وإصدار أوامر بإجراء تحقيقات خاصة من جانب المدعي العام.
كما استهدف الحزب الديمقراطي بشكل متكرر زوجة يون، كيم كيون هي، التي يتهمها بارتكاب العديد من الجرائم بما في ذلك التلاعب بالأسهم.
في خطابه إلى الجمهور في 12 ديسمبر، أوضح يون أسبابه لإعلان الأحكام العرفية، سلط فيها الضوء على ما أسماه "محاولات متهورة للعزل" ومشاريع قوانين المدعي العام الخاص، مدعياً أن تصرفات الحزب الديمقراطي، كانت تتسبب "بشل شؤون الدولة وخلق أزمة وطنية".
وذكر لي جونغ هو، المحاضر في الدراسات الدولية بجامعة يونسي، لـ"الشرق" أنه بموجب الدستور في كوريا الجنوبية "لا يمكن إعلان الأحكام العرفية إلا في أوقات الحرب أو الصراع المسلح أو ما يعادلها من حالات الطوارئ الوطنية، إذ من الواضح أن الظروف الحالية لا تلبي هذه المعايير، ما يجعل قراره غير دستوري ومزعجاً للغاية بالنسبة لبلد يقدر مبادئه الديمقراطية التي اكتسبها بشق الأنفس".
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
اعتقلت قوات الشرطة في كوريا الجنوبية الرئيس الموقوف عن العمل يون سيوك يول داخل المقر الرئاسي في سول، بينما كان الآلاف من أنصاره يتجمعون في الخارج.
وسيكون على المحكمة الدستورية، خلال 180 يوماً على الأكثر، تأييد أو رفض اقتراح العزل بشأن الرئيس الذي لا يزال قانوناً في حكم "الموقوف عن العمل".
وكانت هناك حالتان تم فيهما عزل رؤساء كوريا الجنوبية، في حالة بارك كون هيه، إذ استغرقت المحكمة حوالي 150 يوماً لاتخاذ القرار وتم تأييد العزل، وفي حالة روه مو هيون استغرقت المحكمة حوالي 60 يوماً لاتخاذ القرار، وتم رفض العزل.
وإذا تم عزل يون، فستكون هناك انتخابات رئاسية أخرى، وفي الوقت الحالي منافس يون في الانتخابات السابقة، لي جاي ميونج، من الحزب الديمقراطي، هو المرشح الأوفر حظاً، لكنه يواجه تحديات قانونية خاصة به أيضاً.
ومن بين هذه التحديات، إدانته في نوفمبر بانتهاك قانون انتخاب المسؤولين العموميين خلال حملته الرئاسية في 2022، وقد حُكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، لكنه يعمل على استئناف الحُكم.
وفي حال فشل الاستئناف، لن يكون مؤهلاً للترشح في أي انتخابات لمدة 5 سنوات، وإذا نجح وانتخب رئيساً، سيتم تعليق محاكماته، في تذكير بمسيرة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب في الولايات المتحدة، وهذا ما يُفسر المقولة الشهيرة في كوريا الجنوبية "الفائز يأخذ كل شيء".
من يتولى مسؤولية كوريا الجنوبية؟
بعد وقف الرئيس يون عن العمل، تولى رئيس الوزراء هان داك سو منصب الرئيس بالإنابة، لكن تم عزل هان نفسه بعد فترة وجيزة من قبل الحزب الديمقراطي، مع العلم بأن عزل الرئيس يتطلب غالبية الثلثين، لذلك من أجل عزل يون، كان على العديد من نواب حزب الشعب التقدمي أن يعبروا القاعة ويصوتوا ضده.
بينما لا يتطلب عزل الوزراء العاديين سوى غالبية بسيطة فقط، وبالتالي يمكن للحزب الديمقراطي عزل الوزراء من جانب واحد.
وزعم الحزب الديمقراطي أن هان لم يكن رئيساًَ منتخباً، وبالتالي فإن الأمر يتطلب أغلبية بسيطة فقط، وستحكم المحكمة الدستورية على ما إذا كان هذا هو التفسير الصحيح لقواعد العزل.
وبعد عزل هان، حل مكانه، كرئيس بالإنابة، وزير المالية تشوي سانج موك، لكن مع قدرة الحزب الديمقراطي على عزل موك بأغلبية بسيطة، تواجه كوريا الجنوبية حالة من عدم اليقين بشأن من سيقود البلاد في الأسابيع والأشهر المقبلة، ناهيك عن الأمد البعيد.
المخاوف في سول
أطلق الرئيس يون على نفسه لقب "البائع الأول لكوريا"، إذ نجحت حكومته في تأمين صفقات أسلحة كبرى، وصفقات لتصدير الطاقة النووية، لكن القبض على الرئيس والميزانية الأخيرة خلّفا بعض التكهنات بشأن هذه الصفقات.
وقال المحاضر لي، لـ"الشرق"، إن إدارة يون "روّجت في السابق لاستراتيجية دبلوماسية تركز على الديمقراطية، مؤكدة على بناء سلاسل التوريد مع الدول الديمقراطية الأخرى"، والتي قد تتعرض للخطر، بسبب "السلوك غير الديمقراطي"، مضيفاً "أن الأزمة تخلق حالة من عدم اليقين، ما قد يؤدي إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر".
وقال البروفيسور بايك لـ"الشرق"، إنه "مع تولي إدارة ترمب السلطة في الولايات المتحدة، فإن أحد المخاوف هو التغيير الجذري في السياسة الخارجية للإدارة الأميركية تجاه كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، الأمر الذي يتطلب قيادة قوية ومستقرة في المكتب الرئاسي لكوريا الجنوبية".
ويُنظر إلى يون وحزب الشعب التقدمي بشكل عام على أنهما "مؤيدان للولايات المتحدة، ويتخذان موقفاً عملياً بشأن العلاقات مع اليابان، التي تحسنت في عهد يون".
وكان هناك تعاون ثلاثي بين سول وواشنطن وطوكيو، كما يُعتبر موقف حزب الشعب التقدمي من كوريا الشمالية أكثر تشدداً، وقد وصف يون أعداءه السياسيين بأنهم "مؤيدون لكوريا الشمالية".
المعارضة المعادية
من ناحية أخرى، اتخذ الحزب الديمقراطي موقفاً أكثر معاداة للولايات المتحدة واليابان في الماضي، إذ أدى موقف إدارة مون جاي إن السابقة بشأن المظالم التاريخية ضد اليابان إلى حظر الصادرات الرئيسية عن كوريا الجنوبية.
ويتبنى الحزب الديمقراطي نبرة أكثر تسامحاً تجاه كوريا الشمالية، حيث التقى مون بزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون في مناسبات عدة، وإذا تولى الحزب الديمقراطي السيطرة على الرئاسة، فتوقعوا منه أن يكون أكثر تصالحية تجاه بيونج يان.
كما اتهم نواب الحزب الديمقراطي يون بمحاولة تأجيج التوترات مع الشمال، إذ يُنظر إلى الحزب الديمقراطي على أنه أكثر تفضيلاً من حزب الشعب التقدمي تجاه الصين، لكن كوريا الجنوبية تعرضت للدغة في الماضي من الاعتماد على دولة واحدة.
علاوة على النزاعات التجارية مع اليابان، عانت كذلك كوريا الجنوبية بشدة من المقاطعات الصينية عندما سمحت بنشر نظام الدفاع الصاروخي الأميركي "ثاد"، ونتيجة لذلك، حرصت كوريا الجنوبية على تنويع أسواق صادراتها وتأمين سلاسل التوريد للمواد الرئيسية.
وقال المحاضر لي لـ"الشرق"، بغض النظر عن الحزب الحاكم، "إن حجر الزاوية الثابت في السياسة الخارجية لجمهورية كوريا، هو إعطاء الأولوية للتحالف مع الولايات المتحدة، هذا التحالف جزء لا يتجزأ من البنية الأمنية والمصالح الاستراتيجية لجمهورية كوريا، ويشكل العمود الفقري للاستقرار في شبه الجزيرة الكورية"، مستبعداً تعرض أي إدارة، بغض النظر عن توجهاتها السياسية، للخطر".
وأضاف:" التغييرات في الإدارة لم تعطل هذا التحالف تاريخياً"، وربما تكون هناك مبالغة في المخاوف من إعادة تنظيم دراماتيكي تجاه الصين في ظل الحزب الديمقراطي.
ويبدو واضحاً أن كوريا الجنوبية أمام مفترق طُرق، سياسي داخلي، سينعكس بشكل كبير على السياسية الخارجية للبلاد وطبيعتها، تجاه بلدان الجوار، لا سيما كوريا الشمالية والصين واليابان، في حين يُرجح أن تكون سول في موقع المُتلقي، في علاقاتها مع الولايات المتحدة.