بعد أيام من انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد عقب اختفاء الدعم الإقليمي له، يجد القادة العراقيون أنفسهم أمام معضلة متصاعدة تتمثل في كيفية الموازنة بين علاقاتهم الوثيقة مع إيران من جهة، وتفادي الوقوع في مسار مشابه لسوريا التي اعتمدت بكثافة على الدعم الإيراني.

ويقول مسؤولون ومحللون إن مستقبل استقرار العراق وسيادته وآفاقه الاقتصادية باتت تشكل تحدياً وسؤالاً صعباً حول النفوذ الإيراني في العراق.

ومثّل التحالف بين إيران وسوريا لسنوات ركيزة أساسية للاستراتيجية الإقليمية لطهران، إذ أتاح لها ممراً مباشراً إلى لبنان وشكل جسراً للتأثير وتوريد السلاح. إلا أن الصراع في سوريا اختبر هذا التحالف بشدة. فانهيار نظام الأسد في أسبوعين، كشفت تحديات ودروس صعبة سرعان ما أثارت أسئلة في بغداد، الواقعة في قبضة طهران منذ سنوات.

ويشير مسؤولون غربيون ومحللون إلى أن دور إيران الإقليمي، الذي كان يُنظر إليه ذات يوم بوصفه راسخاً، بات الآن تحت ضغطٍ غير مسبوق.

ففي العراق، يراقب الكثيرون هذه التطورات بخشية من تكرار سيناريو مماثل. فمع استمرار إيران في فرض نفوذ كبير على المشهدين السياسي والأمني في البلاد، يتصاعد القلق في بغداد من أن الاعتماد المُفرط على طهران قد يجعلها عرضة لنفس المصير السوري، رغم التركيبة الطائفية، وذلك من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي واجهتها دمشق. وفي هذا السياق، تهمس أوساط سياسية عراقية معبرة عن قلقها من أن ارتباط العراق الشديد بطهران قد يعرقل قدرته على التحرك باستقلالية على الساحة الإقليمية.

التشكيلات المسلحة

في صميم المعضلة العراقية تكمن التشكيلات المدعومة من إيران وجلها تعتمد "الخزان الشعبي الشيعي"، مثل "كتائب حزب الله" وحركة النجباء وغيرها. هذه الجماعات تؤدي دوراً مزدوجاً، فهي من جهة تعززت مكانتها إبان مشاركتها في "مساعدة العراق في مواجهة التهديدات المتطرفة من داعش"، ومن جهة أخرى تُقَوِض سلطة الدولة وتزيد حدة التوترات الإقليمية. وجودها المستمر يثير مخاوف من أن يُجرّ العراق إلى مواجهات إقليمية أوسع، ربما مع إسرائيل أو خصوم إقليميين آخرين، بالنظر إلى انخراط هذه التشكيلات في الأجندة الاستراتيجية الإيرانية.

يأتي هذا في وقت يتنامى فيه السخط الشعبي العراقي إزاء التدخلات الخارجية. فقد عبّر العديد من العراقيين، ومن بينهم شخصيات سياسية بارزة، عن رفضهم لما يعتبرونه انتهاكاً للسيادة الوطنية. وقد شهدت السنوات الأخيرة احتجاجات شعبية تشير إلى رغبة قوية لدى العراقيين في تحديد مسار مستقل بعيداً عن تجاذبات القوى الإقليمية.

تداعيات اقتصادية وسياسية

لا يزال الاقتصاد العراقي هشاً ومعرضاً للصدمات الخارجية، ويحاول التعافي من عقود من الحروب وسوء الإدارة. وفي حين يوفر النفوذ الإيراني أحياناً دعماً على المدى القصير لبعض القطاعات، فإنه يصرف المستثمرين الأجانب عن البلاد، نظراً لتزايد المخاوف بشأن المخاطر السياسية وانعدام الاستقرار.

ويعتبر خصوم نفوذ إيران في العراق أن الانهيار الاقتصادي في لبنان دليلاً على عجز طهران عن تقديم دعم اقتصادي مستدام لحلفائها، حيث تمتع حليف إيران "حزب الله" بنفوذ كبير هناك حتى أسابيع مضت.

كما يشكل الانهيار الاقتصادي في لبنان تحذيراً للعراق بضرورة تنويع شراكاته لجذب الاستثمارات وتحقيق الاستقرار المالي.

وتعاني إيران نفسها من تحديات اقتصادية واجتماعية حادة داخل حدودها، بما يشمل التضخم واحتجاجات شعبية متكررة، ما يحدّ من قدرتها على دعم دول أخرى. فضلاً عن ذلك، تؤثر العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة ودول أخرى بشدة على الاقتصاد الإيراني وتقيّد إمكانياته في مساعدة حلفائه.

تحولات الدور الإقليمي

إلى جانب ذلك، فإن انسحاب إيران من سوريا، عقب انهيار حليفها – نظام الأسد - فتح المجال أمام تركيا، لتعزيز نفوذهما في سوريا. هذه التحولات الإقليمية تضع العراق أمام تحدٍ أكبر، وتضغط على حكومته لوضع سياسة خارجية أكثر توازناً لا تعتمد على دولة واحدة ذات نفوذ طاغٍ.

رسم مسار للمستقبل

وأمام هذه المعطيات، يبدو القادة العراقيون في حيرة تصل حد المأزق، بين ضرورة تعزيز سيادة البلاد واستقرارها الاقتصادي، وبين السير في حقل ألغام يسوده نفوذ إيراني غير مسبوق مدعوم بنفوذ تشكيلات عسكرية.

ويرى محللون سياسيون أن تقليل الاعتماد على طهران، مع الإبقاء على علاقات ودية، يتطلب دبلوماسية حذرة وإصلاحات داخلية. وعلى الحكومة أن تتفادى الوقوع في دوامة الاعتماد المفرط على قوى خارجية، كما حدث في سوريا، لأن أي حليف خارجي مهما بلغت قوته لا يمكنه ضمان الاستقرار بعيد المدى.