في قلب مدينة كيوتو اليابانية، يقع معبد "كوداي جي" الذي يعود تاريخه إلى 400 عام مضت، حيث تحيط به حدائق غناء منسقة وأشجار مرصعة بزهور الكرز في مشهد يبعث على البهجة ويترك في النفس شعورا بالسكينة والخشوع. لكن عندما يتقدم الزائر إلى داخل المعبد، سوف يطالعه مشهد ربما يثير الدهشة بعض الشيء، حيث سيجد أمامه راهبا بوذيا مصنوع من الألمنيوم والسيليكون وهو يلقي موعظة دينية على الجالسين أمامه في الداخل.
وقد تم تصميم الراهب الروبوتي "ميندار" على هيئة إله الرحمة في البوذية، وهو جزء من قوة العمل الروبوتية في اليابان التي تثير مخاوف متزايدة تتعلق بالأمن الوظيفي في شتى مجالات العمل في البلاد، لا سيما أن الروبوتات شقت طريقها إلى مجالات كنا نظنها في مأمن من الغزو الروبوتي مثل صناعة الصحافة وجلسات الطب النفسي على سبيل المثال.
فقدان المصداقية
ويدور الجدل حاليا بشأن ما إذا كانت الروبوتات تستطيع فعلا أن تحل بدلا من الرهبان والقساوسة، أو ما إذا كان لا تزال هناك وظائف لا تستطيع الروبوتات الاضطلاع بها؟
ويقول الباحثان جوشوا كونراد أستاذ العلوم السلوكية بجامعة شيكاغو الأميركية وكاي شي يام أستاذ كرسي بكلية إدارة الأعمال بجامعة سنغافورة الوطنية، إن الدراسات التي أجريت على مدار سنوات في مجال طب نفس الأتمتة تشير إلى أن مثل هذه الماكينات لا تزال تفتقد عنصرا أساسياً، ألا وهو المصداقية، وبدونها، لن تستطيع الروبوتات مطلقا التفوق على البشر في مجالات مثل الوعظ الديني.
ويوضح الباحثان، في مقال أورده الموقع الإلكتروني "Scientific America" المتخصص في الأبحاث العلمية، الفارق بين المصداقية والقدرة، حيث يقولان إن "القدرة" هي استطاعة أداء عمل ما، أما "المصداقية" فهي الثقة التي يضعها البشر في شخص أو شيء ما من أجل الاضطلاع بعمل بعينه. ويرى الباحثان أن المهندسين نادرا ما يفكرون بشأن المصداقية عند تصميم روبوت معين، حتى لو كان هذا الروبوت قادر بالفعل على النهوض بالعمل المنوط به.
ويرى الباحثان أن المصداقية تتطلب الإيمان الحقيقي بأفكار معينة، وإتيان سلوكيات أو تضحيات تثبت هذه القناعة أو الإيمان أمام الآخرين، ومن هذا المنطلق، فإن الروبوتات يمكنها إلقاء مواعظ دينية أو كتابة خطبة سياسية، لكنها لن تترك تأثيرا حقيقيا لدى المتلقي لأنه يعرف في قراره نفسه أنها ليست مقتنعة في حقيقة الأمر بتلك العبارات أو الأفكار التي تنطق بها أو تكتبها.
مدى الاقتناع
وعلى مدار العامين الماضيين، انخرط الباحثان جوشوا كونراد وكاي شي يام في تجربة علمية بالتعاون مع معبد كوداي جي الياباني لتحديد مدى الضرر الذي يمكن أن تتعرض له المؤسسات الدينية بسبب مشكلة غياب المصداقية. واستندت التجربة على فرضية أن الروبوتات قد تبدو مشهدا جذابا في مقاطع الفيديو تحت تأثير المؤثرات البصرية والصوتية، وقد تجتذب الزائرين لمتابعة هذه الخطب الدينية، ولكنها لا تستطيع في نهاية المطاف أن تترك تأثيرا دينيا ملهماً لدى المتابعين.
وفي إطار التجربة التي نشرتها الدوريات العلمية مؤخرا، تم تقسيم زوار المعبد إلى مجموعتين، حيث استمعت المجموعة الأولى إلى خطبة الروبوت ميندار فيما تلقت المجموعة الثانية الوعظ من رهبان المعبد الأصليين، وبعد الاستماع إلى الخطبة، كان يتم استطلاع رأي الزائرين ومطالبتهم بالتبرع لصالح المعبد. وتبين من التجربة أن الزائرين الذين استمعوا إلى الروبوت ميندار ذكروا أنه أقل مصداقية من الرهبان البشر، وكانوا أقل استعدادا للتبرع لصالح المعبد بنسبة 12% مقارنة بمن استمعوا إلى خطبة الرهبان الحقيقيين.
وفي تجربة ثانية، قام الفريق البحثي بقياس درجة الالتزام الديني لمجموعة من المتطوعين بعد اطلاعهم على موعظة دينية كتبها روبوت وأخرى كتبها قسيس، وتبين من التجربة أن المشاركين كانوا أقل تأثرا بالموعظة التي كتبها الروبوت، وذكروا أنه لا يتحلى بنفس مصداقية القساوسة البشر. وعمد الباحثان إلى إجراء تجربة ثالثة تتعلق بقيام روبوت بإلقاء موعظة تتعلق بالعقيدة الطاوية على مجموعة من المستمعين، وتبين بعد الاستماع إلى هذه الموعظة أن المصلين في المعبد كانوا أقل استعدادا لتوزيع منشورات دعائية للترويج لهذا المعبد بنسبة 12% مقارنة بمن استمعوا إلى موعظة دينية من راهب من البشر.
استبدال البشر
وأكد الباحثان في المقال أن مثال نقص مصداقية الروبوتات أصبح من الممكن استشعارها في مجالات مثل الصحافة والرعاية الصحية والقانون والجيش، والسيارات ذاتية القيادة، "فرغم أن الروبوتات يمكنها الاضطلاع بهذه المهام، فإنها لا تبعث على الثقة، ومن المستبعد أن يثق القارئ في عنوان صحفي من تأليف روبوت ما، أو أن يقتنع البشر بقرارات أخلاقية اتخذتها ماكينات وترتب عليها سقوط وفيات في حادث سيارة ذاتية القيادة، أو وقوع قتلى في عملية قصف تقوم بها طائرة مسيرة تقودها منظومة روبوتية".
ويرى الباحثان أن الوظائف التي تتطلب المصداقية يمكن أن تتم بشكل أكثر فعالية إذا ما وجدنا طريقة ما للمزج بين قدرات الروبوتات ومصداقية البشر في آن واحد، بدلا من مجرد الاستغناء عن البشر واستبدالهم بالروبوتات بشكل مباشر.
(د ب أ)