لم تختلف نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية عن التوقعات، بعدما حسم الرئيس قيس سعيد السباق الرئاسي من جولة واحدة، بفوز مريح ضمن له ولاية رئاسية ثانية بأصوات نحو 2.4 مليون تونسي، وهو ما يمثل نسبة 90.69% من الأصوات المعبر عنها.

ورغم الفوز الكبير في الانتخابات، إلّا أن طريق سعيّد لإخراج البلاد من أزماتها، لا يبدو ممهداً، بفعل المطبات الكثيرة المرتبطة برهانات التونسيين وتطلعاتهم، وكذلك بالملفات التي تنتظر الحسم.

ويبدأ قيس سعيد ولاية رئاسية ثانية لخمس سنوات، وسط أوضاع اجتماعية هشّة، وواقع اقتصادي محفوف بالمخاطر، ورهانات سياسية معقّدة، بعد انقضاء ولايته الأولى بين نظامي حكم مختلفين.

وفصل دستور تونس الجديد في عام 2022، بين النظامين المختلفين، إذ منحه صلاحيات واسعة، خلافاً لنظام الحكم البرلماني الذي أقرّه دستور 2014، والذي رأى كثيرون أنه فشل في تحقيق الاستقرار والرفاه الاجتماعي، بترسيخه للفساد والمحاصصة الحزبية، وانتشار المال السياسي الفاسد، وتغول الإسلام السياسي، ما أدخل تونس في دوامة من العنف.

وأكد الرئيس التونسي إبان إعلان النتائج الأولية في قصر قرطاج، الأسبوع الماضي، "ضرورة استرجاع الدولة لدورها الاجتماعي"، في إشارة إلى قطاع الخدمات العامة، الذي شهد في السنوات الأخيرة تدهوراً، شمل البنى التحتية لقطاعات النقل والصحة والتعليم.

وشدّد مواطنون في الشارع التونسي تحدثوا لـ"الشرق"، على ضرورة المضي قدماً في محاربة الفساد، وتطهير الإدارة من المتقاعسين، كأولوية قصوى لتحقيق الإصلاحات المنتظرة في جميع القطاعات.

ويرى علي، وهو مزارع تونسي يزور العاصمة بحثاً عن قطع غيار لشاحنته، أن لا خلاص لتونس بغير مواصلة الحرب على المفسدين، معتبراً أن الإصلاحات المرتقبة للقوانين لا يمكن أن تصلح الأحوال، طالما يوجد فاسدون في الإدارات.

وبدا سفيان، وهو موظف خمسيني في مركز اتصالات، متشائماً جداً من الواقع التونسي. وبسؤاله عن أولويات البلاد بعد تجاوز الرهان الانتخابي، أكد أن الشعارات التي يطلقها القادة السياسيون منذ سنوات، لم تغير من واقع التونسيين في شيء، وقال: "لقد مللنا الكلام، كفانا خطابات، اعملوا فحسب، فقط العمل، لا نريد أن نسمعكم".

الاقتصاد التونسي.. "مفترق طرق"

وتعيش تونس أزمة اقتصادية حادة، بسبب الصراع السياسي والمديونية المرتفعة، إذ تبلغ قيمة خدمة الدين الخارجي لتونس لسنة 2024، رقماً قياسياً ناهز 12.3 مليار دينار (4 مليار دولار)، بزيادة 40% عن العام الماضي.

ومع الصدمات التي تسببت فيها جائحة كورونا والأوضاع العالمية، لم تتجاوز نسبة النمو خلال العام الجاري 1%، واستقرت نسبة البطالة في النصف الأول من 2024 عند معدل 16%. ولكن ارتفاع الأسعار سيظل العنوان الأبرز للتونسيين، بالرغم من تباطؤ التضخم إلى مستوى 6.8%، بعدما تجاوز نسبة 10% قبل عام، بحسب بيانات معهد الإحصاء التونسي.

وتراجع احتياطي العملات الأجنبية في البلاد بأكثر من مليار دينار (340 مليون دولار)، وفق بيانات البنك المركزي التونسي الصادرة في 10 أكتوبر. 

وبعد تولي سعيّد الحكم في 25 يوليو 2021، كانت تونس مقبلة على التزامات مالية خارجية، هي الأعلى في تاريخها على مدى ثلاث سنوات، ومع ارتفاع المديونية وضعف نسب النمو بسبب جائحة كورونا، وضعف البرلمان بقيادة حركة النهضة، توصلت الحكومة آنذاك إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي خريف عام 2022، للحصول على قرض قيمته 1.9 مليار دولار.

الرئيس التونسي قيس سعيد في كلمة بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لرحيل أول رئيس للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة. 6 أبريل 2024
الرئيس التونسي قيس سعيد في كلمة بمناسبة ذكرى رحيل الرئيس السابق الحبيب بورقيبة. 6 أبريل 2024 - facebook/Presidence.tn

غير أن التوجه الاستراتيجي للرئيس سعيّد ارتكز على تثبيت الخيار الاجتماعي للدولة برفضه "إملاءات صندوق النقد الدولي" التي تضمنها برنامج الإصلاح الاقتصادي، خصوصاً ما تعلق بتقليص أعباء الدعم الحكومي.

وارتكزت سياسة "التعويل على الذات"، الذي اعتمدته الدولة التونسية، على 3 عناصر أساسية، تتسم بالهشاشة، وهي تحويلات المغتربين وعائدات السياحة والدين الداخلي.

وتمكنت تونس من إنهاء ديون كبرى، رغم الأزمات العالمية وموجة جفاف تكاد تعصف بشتى المجالات الزراعية، وتغيرات مناخية حادة ضربت مختلف منظومات الإنتاج، واستنزفت المخزون الاستراتيجي للمياه.

وقال خبير السياسات الضريبية أمين بوزيان لـ"الشرق"، إن تونس سددت في السنوات الثلاث الأخيرة أهم أقساط الديون، وخاصة الخارجية، وهو تراكم لسياسات ارتكزت على المديونية.

وأضاف بوزيان أنه على المستوى الاستراتيجي "انتهج الرئيس توجهاً صحيحاً"، بحسب تقديره، بـ"اتخاذه سياسية التعويل على الذات والخروج من سياسة الدين، والذي يعتبر أمراً جيداً، بالرغم من غياب خطة بديلة، وهو الذي فسّر ضعف الأداء الاقتصادي". 

وأشار بوزيان إلى "الحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة"، معتبراً أن "من الجيد أن تستمر تونس في دعم أسعار المواد الأساسية والمحروقات"، مذكراً أن تونس كانت تدعم الأسعار بكلفة ناهزت نحو 4 مليارات دينار في الفترة بين 2011 إلى 2019، واليوم ارتفعت هذه الكلفة لتبلغ 12 مليار دينار (4 مليار دولار)، وهو ما تأثر به الاقتصاد التونسي، بسبب زيادة نسب التضخم، بالرغم من محاولة الدولة للسيطرة على كميات المواد الأساسية.

وأضاف الخبير الاقتصادي أنه "لا يمكن الاستمرار في فرض سياسة التقشف، والمحافظة على نسبة متدنية جداً للاستثمار العمومي، كما هو الحال في موازنة السنة الماضية وموازنة العام الحالي"، واعتبر أنه "لا بد الآن من خطة إنعاش، عبر خلق تمويلات كبرى للاستثمار الحكومي، سواء من الداخل، أو من الخارج".

كلفة سياسية باهظة 

على الصعيد السياسي، عاشت الساحة التونسية توتراً متصاعداً خلال الفترة الانتخابية. ورافقت إجراءات الترشح للسباق الرئاسي انتقادات واسعة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، منذ إعلانها رفض ملفات العديد من المترشحين، لعدم استجابة مطالبهم لشروط الترشح كما نص عليها القانون الانتخابي.

واعتبر فاعلون سياسيون في تونس إجراءات هيئة الانتخابات بمثابة "تطويق لمرحلة الانتقال الديمقراطي"، وإرجاع تونس إلى "أجواء الحكم المطلق وزمن الاستبداد"، حيث تغيب أبرز مقومات الديمقراطية.

وانتقل الخلاف بين المعارضة وهيئة الانتخابات إلى المحكمة الإدارية، أثناء التداول في طعون المترشحين للانتخابات في قرارات الهيئة، مما دفع نواباً في البرلمان إلى تعديل القانون الانتخابي، بهدف سحب سلطة القضاء الإداري على نزاعات الانتخابات، ومنحها إلى القضاء العدلي، وهي مبادرة تشريعية ارتكزت على مبدأ "ضمان وحدة الإطار القضائي الذي يتعهد بالنظر في النزاعات الانتخابية، بما من شأنه أن يؤدي إلى تفادي سلبيات التوزيع السابق على ثلاث نظم قضائية مختلفة".

وتعديل القانون الانتخابي، فسره برلمانيون على أنه "ضرورة لتفادي التصادم القائم بين مؤسستين شرعيتين"، و"لحماية المحكمة الإدارية من التوظيف السياسي والتحكم في قراراتها من قبل قضاة لهم علاقات عائلية مع معارضين بارزين"، بحسب بعض نواب البرلمان.

وأثارت الإجراءات التي رافقت المسار الانتخابي غضب المعارضة، التي خرجت للاحتجاج "رفضاً لتغيير القانون الانتخابي خلال العملية الانتخابية، على مقاس السلطة والتي تمس من مواطنة التونسيات والتونسيين"، وفق قولهما.

وضع الحريات في تونس

ويتوقع مراقبون دخول تونس في مرحلة تهدئة وانفراج، من خلال حسم المحكمة الدستورية الجدل الواسع الذي أحدثه "المرسوم 54" الذي يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، والذي حوكم بمقتضاه العشرات على خلفية تصريحاتِهم وآرائهم ومواقفهم.

واعتبر نقيب الصحافيين التونسيين زياد دبار، أن الصحافيين التونسيين وحتى المواطنين، هم في حالة إطلاق سراح شرطي، بمقتضى ذلك المرسوم "الذي ينسف المكسب الأساسي من الثورة التونسية، وهو حرية التعبير".

وأضاف دبار، لـ"الشرق"، أنه "من المفارقات أن المادة 80 من الدستور التي اعتمدت عليها إجراءات 25 يوليو 2021، اعتُمِد فيها على الفراغ الدستوري الذي يتمثل في غياب المحكمة الدستورية، ومع ذلك نجد أنفسنا اليوم وبعد ثلاث سنوات من إجراءات 25 يوليو، دون محكمة دستورية"، مشدداً على أنه "من الضروري أن يكون لتونس محكمة دستورية، وهيئات دستورية تقوم بدور تعديلي".

وأشار دبار إلى أنه "يمكن للمحكمة الدستورية أن تكون ضامناً للعديد من الإشكالات الدستورية، ولكن الأهم من إرساء المحكمة الدستورية، هو إيجاد الدور الإيجابي الذي تقوم به المحكمة الدستورية".

واعتبر مقرّر لجنة الحقوق والحريات في البرلمان التونسي، النائب محمد علي، في حديث لـ"الشرق"، أن نتائج الانتخابات الأخيرة بهذه النسبة المرتفعة التي تجاوزت 90% من أصوات الناخبين، هي بمثابة تفويض شعبي كبير للمرحلةِ السياسية القادمة، وهو ما يفرض التزامات أكبر على سعيّد وحكومته، لتحقيق مطالب الشعب الأساسية، وأبرزها الخروج من مرحلة التشنج السياسي والاجتماعي.

وعلى الصعيد التشريعي، قال النائب إن لجنة الحقوق والحريات كانت تقدّمت بمبادرة لتعديل "المرسوم 54"، لخطورة ما تمر به البلاد على مستوى أوضاع الحقوق والحريات، وما تسببت فيه المادة 24 من هذا المرسوم من تداعيات على الحريات السياسية وحرية الصحافة وحرية الرأي والتدوين.

وأضاف النائب محمد علي، أن العفو التشريعي العام الذي شمل 1400 مدون، يؤكد على "تأزم وضع الحريات".

ولم يستثنِ "المرسوم 54" السياسيين والصحافيين والإعلاميين، بل شمل العديد من المواطنين العاديين، والمعلمين والنقابيين والنشطاء في كامل أنحاء البلاد، لتقف تونس من جديد أمام حتمية تعديل هذا القانون الذي يحدّ من مجالات الحقوق والحريات.