حقق "مؤتمر باريس" لدعم لبنان، نتائج مفاجئة على مستوى المساعدات الإنسانية المقدمة، والتي تجاوزت التوقعات لتصل إلى مليار دولار بدلاً من 460 مليون دولار، وذلك دون الوصول إلى حلٍ لوقف إطلاق النار على الحدود بين لبنان وإسرائيل، أو تفاهمات بشأن تطبيق قرار مجلس الأمن (1701).

ونجح المؤتمر الذي شارك فيه نحو 70 وفداً حكومياً و15 منظمة دولية، في جمع نحو 800 مليون دولار كمساعدات إنسانية، إضافة إلى نحو 200 مليون دولار لدعم الجيش اللبناني لوجيستياً، وفق ما أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، حيث تشهد البلاد هجوماً إسرائيلياً تسبب في نزوح  1.4 مليون شخص، وتسجيل قرابة 3 آلاف ضحية.

ولن تُقدم هذه الأموال بشكل مباشر إلى الحكومة اللبنانية، بل سيتم تحويل جزء منها إلى وكالات الأمم المتحدة المعنية بالشؤون الإنسانية، لتبدأ في تقديم الدعم للنازحين اللبنانيين.

وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عباس الحاج حسن، وعضو الوفد الحكومي المشارك في مؤتمر باريس، قال لـ"الشرق"، إن "ما تم الاتفاق عليه اليوم مجرد وعود، ولاحقاً سيتم وضع آليات التنفيذ والكيفية، وتحديد الجهات التي ستقوم بالتنسيق بين المانحين والمنظمات الدولية والدولة اللبنانية".

وفي ما يتعلق بالأموال المخصصة لدعم الجيش، والتي تبلغ 200 مليون دولار، أوضح أنها "لن تكفي للحديث عن تجهيزات عسكرية، وهي بداية طريق دون شك"، مشيراً إلى أن "أمر توزيع الأموال منوط بالمؤسسة التي تتولى مهمة إدارة المساعدات بالشراكة مع الجهات المانحة".

ولن تتضمن هذه المساعدات أي معدات عسكرية، بل ستوجّه إلى تمويل خطة للجيش اللبناني لتجنيد ما لا يقل عن 6 آلاف جندي إضافي، ونشر ما لا يقل عن 8 آلاف جندي في جنوب لبنان، إضافة إلى القوة الموجودة هناك والتي تقدر بعشرة آلاف جندي، كما ستوفر المساعدات، الوقود والإمدادات الطبية اللازمة لعمليات الجيش.

باريس وواشنطن.. رؤيتان مختلفتان لحل الأزمة

وعلى الرغم من النجاح الذي حققه "مؤتمر باريس" مادياً، إلّا أن التحدي الأكبر يكمن في تطبيق قرار مجلس الأمن (1701) الصادر بعد حرب 2006، فمن الواضح أن المؤتمر لا يملك أي صلاحيات للضغط من أجل تنفيذ القرار الذي ينص على منع أي وجود مسلح خارج إطار الجيش اللبناني في الجنوب، ويطالب إسرائيل بالانسحاب من كافة الأراضي اللبنانية ووقف انتهاكاتها لأجواء لبنان.

وكشفت مصادر فرنسية مطلعة لـ"الشرق"، عن وجود اختلافات في وجهات النظر بين باريس وواشنطن بشأن تطبيق قرار (1701)، ففي حين تطالب فرنسا بتطبيقه دون أي تعديل، تسعى الولايات المتحدة إلى إدخال بعض الملاحق عليه، تطلب من خلالها السماح لإسرائيل بمواصلة التحليق الجوي فوق الأراضي اللبنانية لمراقبة أي محاولات لإعادة تسليح حزب الله، ومنح القوات الدولية (اليونيفيل) صلاحيات أوسع للتفتيش عن الأسلحة في المناطق الحدودية مع إسرائيل.

ويتطابق الموقف الرسمي اللبناني الذي عبر عنه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إلى حد كبير مع الرؤية الفرنسية، فحكومة بيروت ترفض المساس بالقرار (1701)، كما ترفض أي تعديل لمهمة (اليونيفيل)، وتطالب بدعم الجيش اللبناني لكي يتمكن من بسط سيادة الدولة على كافة أراضيها، ولا سيما المنطقة الجنوبية.

ويؤكد الموقف اللبناني أن تعزيز القدرات العسكرية للجيش ستمكنه من القيام بأداء مهامه الوطنية، بما في ذلك منع تدفق الأسلحة إلى الجنوب، وضرورة حماية الحدود، كما يطالب في الوقت نفسه بعدم إدخال أي تعديلات على القرار الأممي، والتزام إسرائيل للجزء المتعلق بها، خاصة وقف الانتهاكات المتكررة للأجواء اللبنانية، والتي تقدرها قوات اليونيفيل بنحو 1300 خرق سنوياً.

وسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى تقديم رؤية بلاده على أنها الأكثر واقعية لحل الأزمة في لبنان، فمن وجهة نظر باريس، فإن أولوية الحل تتمثل في وقف التدخل الإيراني في الشأن اللبناني.

باريس وواشنطن.. مساران مختلفان في لبنان

الرؤية الفرنسية (وفقاً لمصادر):

- تطبيق قرار مجلس الأمن (1701) دون أي تعديل
- وقف التدخل الإيراني في الشأن اللبناني
- دعم الجيش اللبناني لفرض سيطرته على الجنوب
تدمير قدرات "حزب الله" العسكرية "مسألة غير واقعية"
- المخاوف من انهيار الوضع واندلاع حرب أهلية في لبنان

الرؤية الأميركية (وفقاً لمصادر):

- إدخال ملاحق على القرار (1701)
- السماح لإسرائيل بالتحليق الجوي لمراقبة "حزب الله"
- منح قوات اليونيفيل صلاحيات أوسع للتفتيش على الحدود

وكان ماكرون وجّه انتقاداً لاذعاً لطهران عندما عبّر عن شعوره بالأسف لأن "إيران زجّت بجماعة حزب الله اللبنانية إلى مواجهة مع إسرائيل"، كما اعتبر في حديث سابق أن طهران زجت بلبنان في هذه المواجهة لحماية نفسها.

وفي المقابل، وجّه ماكرون أيضاً انتقادات لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعدما رفضت مقترحاً فرنسياً أميركياً لقبول خطة لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوماً في لبنان، تجري خلالها مفاوضات مع بيروت وتل أبيب للتوصل إلى حل للأزمة ووقف الحرب.

وأفادت مصادر فرنسية، أن زيارة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان الأخيرة إلى لبنان، تخللها لقاء مع النائب عن حزب الله محمد رعد، قبل يومين من اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وعاد بعده إلى باريس محملاً بموافقة الجماعة اللبنانية على وقف إطلاق النار، وفصل مسار غزة عن لبنان.

وقف إطلاق النار.. "لا جديد"

ورغم تحقيق مؤتمر باريس "نجاحاً" في حشد الدعم الدولي الإنساني للبنان، إلّا أنه كان بعيداً تماماً عن أي تأثير على مستوى وقف إطلاق النار، وتجلّى ذلك في موقف الولايات المتحدة التي خفّضت تمثيلها في المؤتمر، مكتفية بإرسال مساعد لوزير الخارجية، ولم تمنح باريس هامشاً أوسع للحديث في مسألة وقف الحرب الإسرائيلية.

وفسّرت مصادر فرنسية ذلك بأن واشنطن "لن تسمح لأي طرف آخر بالدخول على خط المسار المتعلق باستمرارية الحرب أو وقفها"، موضحة أن "الأمر محصور بالاستراتيجية الأميركية في المنطقة، انطلاقاً من تأمين المصالح الإسرائيلية".

ومجددا،ً تختلف وجهة نظر باريس بالنسبة لمسار الحرب عن رؤية واشنطن، اذ يعتبر الفرنسيون أن إمكانية تدمير قدرات "حزب الله" العسكرية بشكل نهائي -كما تعتقد واشنطن وتل أبيب- هي "مسألة غير واقعية".

وتعتقد باريس أن "حزب الله" قد تعرّض بالفعل لضربات مؤلمة على مستوى اغتيال قادته العسكريين وأمينه العام حسن نصر الله، ومستوى ترسانة الصواريخ التي يملكها، لكنّه "لايزال حتى الآن قادراً على المواجهة لفترة طويلة".

واستناداً إلى المتابعة الميدانية خلال الأيام الأخيرة، فإن باريس تعتبر أن "حزب الله" تمكّن من إعادة تنظيم صفوفه، ولو بالحد الأدنى.

وتشير المصادر الفرنسية، إلى أن "حزب الله" وبعد اغتيال قادته العسكريين "باتت عملياته العسكرية تقاد مباشرة من قبل ضباط في الحرس الثوري الايراني".

تحذيرات فرنسية من "حرب أهلية"

ويُقر الإليزيه، على لسان مصدر مطلع في الخارجية الفرنسية، أن "حزب الله مازال يمتلك أعداداً كبيرة من الصواريخ النوعية التي تنتظر الضوء الأخضر من إيران لاستخدامها ضد إسرائيل، إضافة إلى العتاد الحربي الوازن، وأكثر من 50 ألف مقاتل مدرب".

والخوف الفرنسي الأكبر، أظهره وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو، من انهيار وشيك في لبنان، وخطر اندلاع حرب أهلية، ودعا إلى ضرورة التوصل سريعاً إلى وقف لإطلاق النار، الذي يمثل "ضرورة لأمننا الجماعي".

واعتبر المصدر أن فرضية إضعاف "حزب الله" من قِبل اسرائيل بسبب تعرضه للضربات المستمرة، "لا تعني إنهاء قدرات حزب الله العسكرية على المستوى الداخلي".

وأضاف المصدر أنه "حتى لو سلّمنا جدلاً أن أداء (حزب الله) تراجع في المواجهة مع اسرائيل جنوباً، إلّا أن ذلك لا يعني أبداً أنه ضعيف داخلياً، ويبقى هذا الخوف قائماً بالنسبة لطيف واسع من اللبنانيين، الذين يعبّرون صراحة عن أمنياتهم بتلاشي حزب الله كثقل سياسي وعسكري تماماً".

وتابع: "في حال مالت الأمور نحو الأسوأ في لبنان، وصحّت تحذيرات لوكورنو من انهيار وشيك، وخطر اندلاع حرب أهلية، فإن اللبنانيين يخشون من أن يتحول هذا السلاح إلى الداخل بشكل يصعب عليهم مواجهته".