تهديدات غرباً، وعدم استقرار شرقاً. هكذا كانت حجة الكرملين لتبرير الزيادة الأخيرة في قوام قواته المسلحة، ليصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الاثنين الماضي، مرسوماً يزيد إجمالي أفراد الجيش إلى أكثر من مليونين، بينهم 1.5 مليون عسكري.

وقال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، إن القرار الرئاسي يرجع إلى التهديدات التي تواجهها البلاد على طول الحدود، إلى جانب البيئة المعادية على حدودها الغربية، وعدم الاستقرار على الشرقية، ما يتطلب من موسكو اتخاذ تدابير مناسبة على حد قوله.

وفي حديث لـ"الشرق"، اعتبرت عضو مجلس الدوما الروسي ماريا بوتينا أن القرار جاء نتيجة لتصعيد الوضع الجيوسياسي، بما في ذلك توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو" عند الحدود الروسية.

وأضافت بوتينا: "بعد المرسوم الرئاسي حول زيادة قوام الجيش، سيصبح جيشنا الثاني عالمياً من حيث التعداد، بعد الصين. كما أن القرار ينص على زيادة أعداد المتعاقدين، ويجب أن لا ننسى توسع الناتو في فنلندا والسويد، ولذلك بالطبع قمنا بالتحرك. وتم إنشاء منطقتين عسكريتين هما (لينينجراد وموسكو)، وموسكو، حسب رأيي، ترد بشكل عادل على التهديدات الخارجية".

وأضافت: "هذا المرسوم هو رد على التصعيد المتواصل في الأزمة، خاصة من قبل واشنطن، وموسكو تفي بوعودها على الدوام. وكان على الأميركيين عدم التسرع بالإدلاء بتصريحات ضخمة، والتي لا يليها شيء محدد، بينما على العكس من ذلك روسيا تقول وتفعل".

وبعد الزيادة المرتقبة، ستتفوق روسيا في عدد أفراد جيشها على الهند (1.4 مليون) والولايات المتحدة (1.35 مليون) وكوريا الشمالية (1.35 مليون).

مرسوم رئاسي

في 16 سبتمبر الحالي، وللمرة الثالثة توالياً، منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في 24 فبراير 2022، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يقضي بزيادة تعداد عناصر الجيش بنحو 180 ألفاً ليبلغ مليوناً ونصف المليون، ليصبح تعداد الجيش بين مدنيين متعاقدين وعسكريين إلى 2 مليون و389 ألف فرد، وذلك اعتباراً من مطلع ديسمبر المقبل.

وفي سياق متصل، أمر بوتين حكومته بتخصيص الأموال اللازمة من الميزانية لوزارة الدفاع لتنفيذ المرسوم.

وكانت آخر زيادة في تعداد الجيش الروسي خلال ديسمبر 2023، عندما بلغ عدد أفراد الجيش مليونين و209 آلاف و130 فرداً، بينهم مليون و320 ألف عسكري.

وذكر العقيد جريجوري فومينكو لـ"الشرق"، أنه نظراً للخبرة والاستنتاجات التي توصل إليها الجانب الروسي من خلال قرابة 3 سنوات من الحرب الحديثة الدائرة، ستقوم موسكو بتحديث عدد من التشكيلات المطلوبة في صفوف جيشها.

وأشار جريجوري وهو محلل عسكري في صحيفة "بيرسونا ستراني" إلى إن الزيادة العددية في الجيش الروسي "تطال التشكيلات العسكرية التي أصبحت مطلوبة في الوضع الراهن للحرب، بما يشمل المجالات الهندسية، والحرب الإلكترونية، والمسيرات، والمراكز الطبية لمعالجة الجرحى، إلى جانب حاجة المنطقتين العسكريتين اللتين تم إنشاؤهما حديثاً لينينجراد وموسكو إلى المزيد من الجنود، على خلفية تصرفات غير ودية من قبل دول البلطيق".

واعتبر الدكتور هشام عوكل المختص بالعلاقات الدولية وإدارة الأزمات أن الصراع المتواصل بتطلب تعزيزات وموادر إضافة من قبل روسيا، لذا أقدم بوتين مجدداً على مثل هذه الخطوة.

وتابع: "هذا الصراع المستمر يتطلب تعزيزات وموارد كبيرة، خاصة أن الغرب يزود كييف بصواريخ باليستية، والتي من الممكن بلحظة الصفر أن تؤدي إلى اشتعال حرب عالمية كبرى".

بديل للتعبئة؟

لطالما نفى المسؤولون الروس، وعلى كافة المستويات، الأنباء بشأن موجات جديدة مرتقبة من التعبئة في البلاد، موضحين أن عدد الراغبين في توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية للمشاركة في ما تسميه موسكو "العملية العسكرية" في أوكرانيا آخذ في الازدياد.

ومع صدور المرسوم الرئاسي الأخير، اعتبر البعض، أن هذا القرار يُعتبر بمثابة الابتعاد عن إمكانية إعلان تعبئة جديدة مع تصعيد النزاع والتوغل الأوكراني، في حين رأى آخرون ومن بينهم العقيد جريجوري فومينكو أن الأمر ليس كذلك.

وقال فومينكو: "هذا المرسوم غير مرتبط بالتعبئة، كون أن نصه يوضح بالتحديد التشكيلات التي سيتم تطويرها، لمواصلة هذه الحرب، خاصة أن الخصم بات يعتمد أكثر على استخدام الأقمار الاصطناعية والصواريخ والمسيرات. لو أرادت روسيا استبدال التعبئة بهذا القانون، لما كانت ذكرت التشكيلات التي سيتم زيادة عدد أفرادها".

وقبل نحو عامين من الآن، أعلن بوتين تأييده لاقتراح وزارة الدفاع وهيئة الأركان بإجراء تعبئة جزئية في البلاد، حيث استدعى حينها المواطنين الموجودين في الاحتياط، ليلتحقوا بالقوات المسلحة.

"العمق الروسي"

القيادة الأوكرانية تواصل إلحاحها على ضرورة أن يسمح لها الغرب باستخدام أسلحتهم لضرب العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى، وسط أنباء عن تزويد واشنطن ولندن لكييف بقائمة أهداف محتملة داخل روسيا.

وبحسب ما ذكرت وكالة "رويترز"، يرغب الجيش الأوكراني باستخدام الأسلحة الغربية لضرب مراكز القيادة العسكرية الروسية ومواقع قواتها ومستودعات الوقود والأسلحة.

بموازاة ذلك، تحول طلب أوكرانيا للضوء الأخضر إلى نقطة خلاف بين الحلفاء الغربيين، ونقلت "بلومبرغ" عن مصادر قولها إن القلق الرئيسي للولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية يتمثّل في إحجام "الناتو" عن الانجرار إلى صراع مباشر مع روسيا. ولهذا السبب، تم التحذير من شن ضربات في عمق الاتحاد الروسي وكذلك من انضمام أوكرانيا إلى الحلف في المستقبل القريب.

ورأى الدكتور في العلاقات الدولية أحمد عجاج، أنه لم يتم السماح لكييف باستخدام صواريخ "ستورم شادو" وبعض الصواريخ الفرنسية حتى الآن، نظراً إلى أن بعض مكونات هذه الصواريخ البريطانية أميركية الصنع. ووفق القوانين المتبعة بمجال الأسلحة، لا يحق لأي شخص استخدام تقنية دولة أخرى إلا بإذن منها، كي لا تدخل هذه الدولة في حرب.

وتابع عجاج لـ"الشرق": "عندما اجتمع رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر رفقة مستشارين من حكومته مع الرئيس الأميركي جو بايدن، يبدو أن الأخير لم يوافق على إعطاء الإذن لاستخدام صواريخ  (ستورم شادو)، رغبة في عدم التصعيد بشكل أكبر ومباشر ضد روسيا. ورغم أن بايدن أراد ربما تأخير هذا الأمر لأسباب معينة، لكن هناك تقارير تتحدث عن أنه قد يقبل باستخدام هذه الأسلحة، من دون الإفصاح عن هذا الأمر".

في المقابل، أكدت موسكو أنه في حال استهداف المدن الروسية، سترد باستعمال أسلحة أكثر فتكاً وأشد قوة، محذرةً من أن الغرب لن يبقى بمنأى عن الضرر، وفق قول رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين.

"الخطوط الحمراء"

ومنذ بدء الصراع تعرضت مناطق حدودية روسية لاستهدافات بالمدفعية والمسيرات. وبعد أشهر توسعت رقعتها، لتصل الطائرات من دون طيار في بعض الحين إلى العاصمة موسكو.

وأعقب ذلك توغل القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك في 6 أغسطس الماضي، وكل هذه الأحداث تخلق تساؤلات لدى المواطن الروسي أين باتت هذه الخطوط الحمراء؟

ومع غياب وضوح لدى الداخل الروسي بخصوص هذه الخطوط، يتحدث الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج، وكأنه "يهزأ من بوتين".

وفي مقابلة مع صحيفة "التايمز"، قال ستولتنبرج: "لقد أعلن بوتين بالفعل عن خطوط حمراء عدة مرات، لكنه لم يُصعّد"، معتبراً في الوقت نفسه أن "السماح لأوكرانيا بشن ضربات صاروخية بعيدة المدى في عمق روسيا لن يكون خطاً أحمر يؤدي إلى التصعيد".

وفي توضيح لسعي الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة لإلحاق الهزيمة بروسيا في أوكرانيا، قال الدكتور أحمد عجاج إن "انتصار روسيا سيشجع الصين على احتلال تايوان".

وأضاف: "انتصار روسيا في هذه الحرب سيخل بالميزان الدولي. وبالتالي ستتشجع الصين، وتتوجه لاحتلال تايوان. لذلك يعتبرون أن خسارة بوتين هي بمثابة تحذير للصين لكي لا تفعل ما فعله الرئيس الروسي".

"الإنفاق العسكري"

زادت الحكومة الروسية الإنفاق العسكري في موازنة الدولة لعام 2024 بنسبة 68%، حيث أنفقت منذ بداية الأعمال القتالية في أوكرانيا عشرات مليارات الدولارات على الذخائر والصواريخ والدبابات والمسيّرات ومعدات ورواتب جنود.

وحديثاً، يؤكد بوتين مجدداً خلال اجتماع بشأن القضايا الاقتصادية أن تعزيز القدرة الدفاعية إلى جانب أمور أخرى يجب أن يظل من الأولويات في الميزانية الروسية المقبلة.

ويعتقد الدكتور في العلاقات الدولية أحمد عجاج أن "قرار بوتين رفع عديد جيشه، هو تنبؤ بأن روسيا ليس لديها ما يكفي من الجنود لمواجهة أعدائها، خاصة بعد توسع الناتو وانضمام فنلندا للحلف عام 2023".

وأردف: "الجيش الروسي ليس لديه ما يكفي من الجنود لنشرهم على الحدود التي كانت سابقة آمنة، بينما يبدو أنها أصبحت مهددة في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، ولهذا تبدو دواعي الزيادة مبررة ومنطقية، لكن في الوقت نفسه يتطلب القرار اقتطاع جزء كبير من الميزانية".