تعقد الأحزاب البريطانية أولى مؤتمراتها السنوية في ظل المتغيرات العديدة التي شهدتها المملكة المتحدة خلال عام 2024، في مقدمتها انتقال السلطة إلى "حزب العمال" بعد 14 عاماً من حكم "المحافظين"، واندلاع أعمال شغب عنصرية أخلطت أوراقاً سياسية كثيرة، إضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية، واتساع رقعة الأزمات الخارجية التي تنعكس في ما يبدو على الداخل.

ويقيم "حزب العمال" في 2024 أول مؤتمر سنوي له بعد العودة إلى قيادة بريطانيا لأول مرة منذ 2010، وهو تاريخ انهزام مرشحه السابق جوردن براون أمام المحافظ ديفيد كاميرون.

كما انطلق مؤتمر حزب "الإصلاح" السنوي، الجمعة، وذلك بعد دخوله إلى البرلمان لأول مرة في تاريخه، وأصبح لديه 5 نواب في مجلس العموم، يتصدرهم زعيمه اليميني المتشدد نايجل فاراج.

وعلى نفس المنوال، يلتئم مؤتمر حزب "المحافظين" الخارج من الانتخابات البرلمانية الأخيرة بهزيمة لم يعرفها منذ عقود طويلة، ما استدعى استقالة زعيمه ريشي سوناك، ليدخل في دوامة البحث عن قائد جديد بين 100 نائب لا يوجد بينهم من يتفق عليه الأعضاء كرئيس منتظر يوحد الصفوف، ويعيد إلى التشكيل السياسي الأقدم في البلاد عافيته.

وكان موسم المؤتمرات بدأ هذا الشهر مع "الحزب القومي" الأسكتلندي، الذي اجتمع أعضاؤه قبيل ذكرى مرور عقد على استفتاء الاستقلال عن المملكة المتحدة عام 2014. ولم تكن لغة الانفصال حادة هذه المرة، لكنها لم تغب عن خطابات الساسة، أما الهدف الرئيسي، فكان استعادة حضور الحزب والاستعداد للانتخابات المقبلة، للحفاظ على السلطة في أدنبرة.

وبعد "القومي الإسكتلندي"، عقد "حزب الخضر" مؤتمره السنوي على وقع ضبابية خطط الحكومة الجديدة فيما يخص البيئة والطاقة، ثم جاء مؤتمر "الليبراليين الديمقراطيين"، الذي أصبح ثالث أكبر أحزاب البرلمان من حيث الحجم بعد "العمال" و"المحافظين"، وبات لديه 72 نائباً في مجلس العموم، و79 عضواً في "اللوردات" بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

الثقة والتغيير

وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "YouGov" حديثاً، أن نحو 67% من ناخبي "الإصلاح" يؤيدون أداء حزبهم بشدة منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ويؤيده 30% إلى حد ما، بينما البقية لا يعجبهم. وهذه النسب لم يحصل عليها أي حزب آخر بين مؤيديه بما في ذلك "العمال" الحاكم، الذي يتمتع بغالبية مطلقة في مجلس العموم الجديد.

ويقول الاستطلاع أيضاً إن 7% من البريطانيين يعتقدون أن حزب "الإصلاح" يؤثر بشدة على السياسة البريطانية اليوم، و35% يعتقدون أن تأثيره ضعيف، أما من يريدون دوراً أكبر لهذا الحزب مستقبلاً فهم نحو 30%، في مقابل 45% يتطلعون إلى تقلص نفوذه مقارنة بما هو عليه، فيما لم يحسم البقية موقفهم إزاء هذه النقطة، وتركوا الأمر للزمن والأحداث.

وتُظهر النتائج أيضاً، أن نصف البريطانيين يرون أن "الإصلاح" يكترث للأغنياء أولاً ثم لمناطق الجنوب، وبعدها قطاع الأعمال، وتليه الطبقة المتوسطة، أما آخر أولوياته وفقاً لقائمة تضمنت 18 عنواناً، فهم "المهاجرون والمثليون"، وهو ترتيب يبدو واقعياً بالنسبة للباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، الذي يعتقد أن الحزب اليميني لا زال "منصة رجل واحد".

وقبل مؤتمر حزب "الإصلاح" بأيام قليلة، أعلن فاراج تخليه عن زعامة الحزب، لكن مطر قال لـ"الشرق"، إن "التشكيل حديث العهد لن يستطيع الاعتماد على نفسه بسرعة، ويحتاج إلى الزعيم اليميني المعروف عدة أعوام قبل أن يتحول إلى تكتل سياسي قائم بذاته. كما أن وجوده ليس مرهوناً بشخصية زعيمه كما هو حال بقية أحزاب البرلمان الجديد".

ويرفع "الإصلاح" في مؤتمره الذي انطلق الجمعة، شعار "التغيير"، لكن ليس وفق السياق ذاته الذي قصده "العمال" في الاستحقاق البرلماني الأخير، فجمهور الحزب الذي شكّل نحو 14% من الناخبين في 2024 يريد بلاداً "أكثر حزماً وصرامةً" في التعامل مع المهاجرين، وأكثر حرصاً على "الهوية البريطانية" و"الاستقلال أوروبياً"، على حد تعبير مطر. 

"بث الأمل"

وقالت المحررة السياسية في صحيفة "الجارديان" جيسكا إليجوت في مقال نُشر حديثاً، إن "حزب العمال" يراهن على مؤتمره السنوي لبث الأمل مجدداً في نفوس أعضائه والبريطانيين عموماً، فالأشهر الثلاثة الأولى من حياة حكومة "العمال" كانت صعبة جداً بسبب أحداث الشغب التي شهدتها البلاد نهاية يوليو الماضي، ثم بدأت تظهر أخيراً تصدّعات اقتصادية قاسية. 

ورأت إليجوت، أن "الحرب على الشعبويين وإلقاء اللوم على المحافظين نقطتان أساسيتان في الخطابات المتوقعة لقادة حزب العمال" في المؤتمر، وخاصة رئيس الوزراء كير ستارمر الذي سيتمرد على "المحطات السوداء" في تاريخ الحزب قبل 2010، وأضافت أن "العمال سوف يغيرون هذه الصورة لدى الناس"، على حد تعبيرها.

وينعقد مؤتمر "حزب العمال" في مدينة ليفربول بين 22 إلى 25 سبتمبر الحالي، ونقلت هيئة البث البريطانية عن مسؤول في الحزب لم تُسمه أن "الحدث سوف يتطرق إلى تأميم سكك الحديد، وبناء محطات طاقة الرياح البرية، وحقوق العمال، وإصلاح مجلس اللوردات، ومعايير التعليم والتخطيط والصحة، إضافة إلى قوانين التأجير والاستئجار".

وقال المسؤول نفسه إن "خلافات وانشقاقات راهنة بين نواب الحزب ستظهر خلال المؤتمر السنوي، بعضها يرتبط بوقف مساعدة المتقاعدين في فواتير الطاقة، وفئة ثانية تتعلق بالهدايا والتبرعات التي وصلت لستارمر وزوجته من دون علم الحزب، ومجموعة ثالثة أغضبها تراجع الثقة الشعبية بالحزب، رغم حداثة عهد حكومته".

ومن المتوقع، أن تفتتح وزيرة شؤون الحزب إيلي ريفز، وشقيقة وزيرة الخزانة راشيل، المؤتمر بالدعوة إلى الاحتفال بعودة "العمال" للسلطة بعد 14 عاماً في المعارضة، وأكدّت في بيان رسمي، أن "الفوز في الانتخابات البرلمانية الماضية لم يكن صدفة، بل نتيجة عمل مضنٍ في السنوات الماضية، يستحق أن يحتفل به الجميع خلال المؤتمر السنوي المقبل".

الاختيار الصعب

بينما يحتفل "حزب العمال" بانتصاره في مدينة ليفربول، يجتمع "المحافظون" في برمنجهام وسط لندن بين 29 سبتمبر الجاري و2 أكتوبر المقبل، للوقوف على أطلال 14 عاماً في السلطة ارتكب خلالها الحزب أخطاء كبيرة، أوصلتهم إلى ما هو عليه اليوم، وفي صدارة مشكلاتهم اختيار قائد جديد للحزب، وذلك وفق ما يرى الباحث في مركز "بريطانيا تغير أوروبا" أناند مينون.

وقال مينون: "يبدو أن اختيار خليفة لرئيس المحافظين المستقيل ريشي سوناك، بات معضلة للحزب، بعد أن فقد أبرز القادة مقاعدهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وانحصر الاختيار بين 4 نواب حاليين لا يُحقق أي منهم إجماعاً حقيقياً، ولذلك فضّلت لجنة 1922 القائمة على أمور الحزب التمهل، وتقسيم عملية انتخاب الزعيم الجديد على عدة أشهر".

وتنحصر اليوم المنافسة على زعامة الحزب الأزرق بين 4 وزراء في حكومة سوناك الأخيرة، هم وزير الداخلية جيمس كليفرلي، ووزير الهجرة روبرت جينريك، ووزير الأمن توم توجندهات، ووزيرة الاستثمار والتعاون الدولي كيمي بادينوخ، وجميعهم يشغلون مقاعد في حكومة الظل المعارضة، وفازوا بالجولة الأولى من تصويت النواب المحافظين.

وخلال المؤتمر السنوي المقبل سيصوت النواب المحافظون مجدداً ليختاروا 2 من الـ4 المتبقين من أجل خوض المرحلة الأخيرة في السباق على الزعامة، وفيها يقترع جميع أعضاء الحزب الأزرق البالغ عددهم أكثر من 170 ألفاً وفق إحصائيات 2024، لاختيار القائد رقم 30 للتكتل الأقدم في تاريخ المملكة المتحدة، الذي نشأ عام 1809.

ومن المنتظر أن تُعقد جولة السباق الأخيرة على زعامة "المحافظين" نهاية أكتوبر المقبل، لكن المرشحين الذين سيخوضانها سيكون أمامهما مهمة صعبة في استعادة ثقة البريطانيين بالحزب، وهو عنوان قال الباحث مينون في مقالة على موقع المركز، إنه "سيكون محور نقاش خلال المؤتمر السنوي للمحافظين كي يمهد الطريق أمام الزعيم المقبل".